"يبدو أنّ الزجاج من أكثر الكائنات هلعاً"، هذا ما تقوله رواية رشيد الضعيف "المستبدّ". الرواية الخارجة من قلب الحرب الأهلية اللبنانية تضع الزجاج فوق ميزان التفجيرات بأشكالها المختلفة، وزخات الرصاص المتجهة إلى أهدافها أو العشوائية الطائشة، فتخرج بتلك الخلاصة عن كائن يبدو صلباً لكنّه لا يصمد أبداً، بل غالباً ما يتحول ثباته كقطعة واحدة إلى مجرد حطام وكسرات.
في بيروت، سخر انفجار المرفأ منذ اللحظات الأولى بتلك البنية الصلبة للمدينة الجديدة، المغلفة بطابع الكوزموبوليتية بنسختها السوقية، المتزايدة عمارات وطبقات فوق طبقات، متميّزة بواجهاتها الزجاجية العملاقة المعتمة، وبقواطعها الزجاجية الداخلية الشفافة، وما تؤديه كلّ حالة من الاثنتين من دور، خارجياً وداخلياً.
الانفجار لا يدخل في تلك التفاصيل السوسيولوجية للاقتصاد والمعمار، ولا تعنيه أساساً، فكلّ الزجاج زجاج بالنسبة له، وكلّ زجاج ملعون بذلك الهلع المبرر. هلع لا يقدم لتهشمه وتساقطه وتراكمه أكواماً في زوايا شوارع المدينة، فحسب، بل يقدم لمجزرة بحق السكان والعابرين ممن تصيبهم شظاياه فتقتل من تقتل وتجرح من تجرح، كأنّه يتواطأ مع الانفجار ويزيد زخمه ويمدد آثاره المدمرة إلى مسافات أبعد بكثير مما يقدّر له أن يصل لولاه.
ليس هذا الحديث للتبرير للجدار الحجري باعتباره "كينونة صلبة. لا يتخلى عنك إلّا إذا دمّر تدميراً. حينذاك فقط تغدو يتيماً" كما تقول الرواية نفسها، وما في الحائط من التصاق بذاكرة اللبناني يلجأ إليه في أوقات المعارك، فيختبئ في أبعد غرفة عن القتال، تلك التي تفصلها عنه جدران حجرية سميكة، تحمي من لاذ بها إلّا في أوقات انفجار يحاول أن يصل إلى حجم انفجار بيروت ولا يصل، إذ لا مثيل لمثله في الذاكرة. هو ليس للتبرير للحجر والترويج له، بل للتشديد على تلك الشفافية المزيفة للزجاج المحتفى به دائماً كاختراع وطني تاريخي انطلق إلى العالم بأكمله، والداخل في مقولات البلد الصغير الشعبية حتى في أدق التفاصيل، إذ يقال، كما ينقل لحد خاطر في "العادات والتقاليد اللبنانية": "اللي بيتجوز من بلد بعيدة متل اللي بيشرب من إبريق الفخار، واللي بيتجوز من ضيعتو متل اللي بيشرب من كاس زجاج". هذا الجهل بما هو داخل الفخار، مقابل وضوح ما هو داخل الزجاج، يكاد يكون مبتذلاً في التشديد على "وطنية" تبدو مزيفة في معظم الأوقات، وتُخترَع مقومات وأدوات لها عند الحاجة، أو ما تسمّيه الشاشات "الأحداث الكبرى".
هو حدث كبير فعلاً، لكنّه يرتبط أيضاً بالمدى الذي وصلنا إليه في تزييف وجه مدينتنا وبلدنا، حتى بات الزجاج علامتها الراسخة، في الواقع والنفوس، فلا عجب إن تكسّرت أرواحنا نفسها على وقع الانفجارات.