العمّ زكي أبو دغيم من أوائل الحلاقين في قطاع غزة. وعلى الرغم من بلوغه 72 عاماً، ما زال يعمل ويحلق للمسنين والفقراء من دون مقابل
في قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، حرفيون عديدون، وأصحاب مهن تقليديون وآخرون، يشكلون جزءاً من المشهد العام في الأحياء التي ينشطون فيها، فينغرسون في الذاكرة الشعبية، ولا تكتمل الصورة من دونهم، ولا تخلو الأحاديث من ذكرهم. أحد هؤلاء هو الحلاق العتيق جداً، الذي يمارس مهنته منذ عقود، زكي أبو دغيم، الذي يحظى بسمعة حسنة واسعة الانتشار أبعد من المخيم الذي يعيش فيه ويعمل.
وجودُه في مخيّم دير البلح يُفرح أهله. جميع من يتواجد قرب صالونه الصغير للحلاقة اعتاد إلقاء التحية عليه، فيردّ عليهم بابتسامته المعهودة، هو الذي يرتدي ربطة عنق ملونة ورداء رسمياً على الرغم من أنّ عمله لا يتطلّب منه ارتداء بذلة رسمية.
يُدعى زكي أحمد أبو دغيم، ويبلغ من العمر 72 عاماً. ولد في عام 1946 في قرية برير التي تقع شمال شرق غزة. تعلّم الحلاقة في عام 1965، وبدأ يعمل حلاقاً منذ عام 1966. كان أحد أوائل الحلّاقين في قطاع غزة في ذاك الوقت. وحتى اليوم، يحافظ على مهنته التي أورثها لأبنائه، ويقصده الكثير من كبار السن. كما أنه يحلق للمسنين والفقراء من دون مقابل، وكان هذا خياراَ شخصياً.
تعلّم أبو دغيم الحلاقة على يد لاجئ فلسطيني يدعى أبو حسن أبو سلمية تعود أصوله لقرية جورة المحتلة عام 1948، وكان يعمل حلاقاً متنقلاً. يقول أبو دغيم لـ"العربي الجديد": "في ما مضى، كان عملنا مختلفاً عما هو عليه اليوم. كنّا نجول شوارع المخيم بحسب الطلب. وكان لدي دفتر مواعيد للحلاقة مع أسماء الأشخاص وعناوين بيوتهم. أما في الوقت الحالي، فيبقى الحلاقون في صالوناتهم في انتظار الزبائن".
ويذكر أبو دغيم أنّه كان يتنقل بين محافظات قطاع غزة، ويتقاضى أجره بالعملة المصرية، وكان عشرة قروش في ذلك الوقت. في ذلك الوقت (ما بين 1948 و1967)، كان قطاع غزة يتبع الإدارة المصرية. لكن قيّدت حركته بعد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع في عام 1967، وصار يتقاضى أجره بالعملة الإسرائيلية. وفي الكثير من الأحيان، كان المخيم يتعرض للحصار ما يمنع أي أحد من الخروج من باب منزله.
مع بداية احتلال غزة، كان يحاول الانتقال بين شوارع المخيم الضيقة لاستكمال عمله وصولاً إلى منازل الزبائن. وأكثر من مرة، حين كان يتواجد في منازل زبائنه، كان الجيش الإسرائيلي يدخل إلى هذه البيوت. ويذكر أن أحد الضباط طلب منه ساخراً في إحدى المرات أن يحلق له.
يحب أبو دغيم مهنته كثيراً لأنها قربته من جميع طبقات المجتمع. ومن خلال كرسيه، عرف مشاكل الناس وهموهم. وكان يحرص على الاستماع إلى هموم زبائنه اليومية ومشاكلهم الزوجية التي يبادلها بالضحك والابتسامة محاولاً التخفيف عنهم.
عمل أبو دغيم خمس سنوات في السعودية، وتحديداً في مدينة جدة، مع فلسطيني لاجئ يدعى أبو شريف الكحلوت بين عامي 1980 و1985. ثمّ عمل في مدينتي نابلس وقلقيلية في الضفة الغربية ما بين عامي 1986 و1988، وانتقل بعدها إلى مصر، حيث عمل في مدينتي القاهرة والإسكندرية.
ويشير أبو دغيم إلى أنه قديماً كانت مهنة الحلاقة تعتمد على ماكينة يدوية حديدية لقص الشعر، وكان يحرص على تعقيمها، إضافة إلى كرسي خشبي قديم والموس القديم أيضاً الذي كان يُسنّ. لدى أبو دغيم أربعة أبناء، أيمن وحمادة ومحمد يعملون في الحلاقة، بينما يعمل غسان موظفاً عسكرياً. عمرُ ابنه الأكبر أيمن 42 عاماً، ويعمل حلاقاً في العاصمة البلجيكية بروكسل. يملك عمر محلّين كبيرين، يساعده لاجئون من لبنان وسورية، إضافة إلى شقيقه محمد (29 عاماً). أما ابنه حمادة (34 عاماً)، فيعمل معه في الصالون وسط مخيم دير البلح.
يضيف: "الماكينة الكهربائية وغيرها توفّر جهداً كثيراً. حتّى الفوط واللاصقات لم تكن في زمننا. في تسعينيات القرن الماضي، غزت الماكينات الكهربائية الأسواق، وصار تعلّم المهنة أكثر سهولة. كان الحلاق يحتاج إلى عامي تدريب حتى يصبح حلاقاً ماهراً. للحلاقة بين المخيمات حكاية كبيرة. غزة كانت عبارة عن مخيمات فقط قبل أن تعرف العمارات والأبراج".
الصور بعدسة: محمد الحجار |
لدى أبو دغيم زبائن منذ أكثر من 50 عاماً. يقول: "هناك طبيب يحلق عندي منذ 50 عاماً باستثناء سنوات عملي في الخارج، ويدعى يوسف أبو دية. في جلساتنا، نستعيد الكثير من الذكريات. والآخر طبيب يدعى حسن أبو مغصيب. معاً، نعود إلى الماضي. أتمنى لو يطول عمري أكثر وأكثر حتى أحافظ على ذكرياتهم وذكرياتي".
وبهدف التخفيف عن بعض المسنين والفقراء وغير القادرين على الحراك والتنقل، يقصد العم زكي منازلهم ويقدم لهم حلاقة مجانية. ويذهب إلى بيوتهم على دراجته النارية القديمة. يقول: "لا أطلب المال من غالبية زبائني، أو أتقاضى المال بالتقسيط. يعجز عدد من زبائني عن الدفع من جراء الفقر والتقدّم في السن". يضيف: "لا أستطيع الحديث معهم عن بدل مالي. أحسب أنني أزورهم، خصوصاً أنهم كانوا زبائني قديماً، وكانوا يدفعون لي. من المعيب ألّا أقف معهم، علماً أنني كنت أعتاش من خلالهم".