حين ذهب طه حسين إلى الدراسة في السوربون، سرعان ما دخل في دوامة "الصدمة الحضارية" التي عرفها من مرّوا بتجربة "الرحلة الباريسية" من رفاعة رفعت الطهطاوي إلى توفيق الحكيم. صدمة ستنتج طاقة تغيير مستفيدة من سياقات الوضع الجيوسياسي (استعمار، تفاوت في موازين القوى الاقتصادي شمال/جنوب إلخ).
ابتعدنا اليوم بمسافة أكثر من نصف قرن على الأقل عن آخر حديث عن الصدمات الحضارية، ربما خفّ وقعها بسبب اختلاط حياتنا بكل ما هو "حديث" فلم نعد ننتظر كتابات هؤلاء عنها. لقد أصبحت صدمة داخلية يومية، وبالتالي استبطنها الفرد والمجتمع.
حين رجع طه حسين إلى بلاده في العشرينيات، بدأ ببثّ دعوته التي سمّاها أنصاره بـ "التنوير" (اشتقاقاً من التسمية الفرنسية، كونه اتخذ من ديكارت الفرنسي نموذجاً فكرياً) فيما أطلق الخصوم على تيّاره تسمية "التغريب"، حيث ألبسوا "الغرب" بـ "الغربة" في مصطلح واحد.
لعلنا كنّا نناصر بالضرورة "عميد الأدب العربي" لو أننا جايلناه، لكننا في الحقيقة جايلنا أبناءه وأحفاده، وقد حوّلوه بمرور الزمن إلى سلطة معرفية، تعترضنا في نصوص المدرسة الابتدائية ثم حين ننفتح على قراءة التاريخ العربي ورموزه. ثمة شيء من طه حسين في كل مكوّن ثقافي.
كان صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"، رجل مواقف حادة وجريئة في عصره، أعاد من خلال كتابيْ "الشعر الجاهلي" و"الفتنة الكبرى" قراءة التاريخ الإسلامي في جذوره. قراءة كان لا بد أن ينتجها السياق التاريخي والأسئلة التي أفرزتها، ولا بد للتطوّر المنتظر أن يمر من تحدّ تشكيكيّ مشابه.
قد يصحّ لقارئ مسار التاريخ العربي المعاصر، أن يقول بأن الانتصار على رجعية عصر (انتصار طه حسين وجيله) هو نفسه باعث رجعية العصر الذي يليه.
هكذا تحوّلت أمثولة العقلانية التي بعثها صاحب "المعذّبون في الأرض" إلى مسطرة تضرب على أيدي من يخرج عن القراءة-النموذج للأدب والتاريخ والحياة، ثم وفي منعرج تاريخي آخر ستحوّلها البيروقراطية العلمية إلى تقاليد، وبالتالي إلى رجعية جديدة.
بعد ذلك جثمت على البذرة الأولى طبقات من الأتربة والغبار بين مكاتب الوزارات (التربية والتعليم والثقافة خصوصاً)، وتمتّع "الكهنوت" العلمي والبيروقراطي بمغريات تأبيد الوضع الداخلي، التي يقدّمها الحاكم السياسي، وامتيازات تأبيد الوضع العالمي، التي تقدمها العلاقات العامة الأكاديمية بين جامعات الشمال والجنوب.
سيطر ورثة طه حسين على أجهزة الضبط (المدرسة والجامعة كوسائل لإعادة إنتاج المجتمع) فأعملوا أقلامهم في الرسائل الجامعية، وحدّدوا من يكتب ومن لا يكتب، ومن يظهر ومن لا يظهر. ولا زالوا يقولون بـ "التنوير" (تنوير أوائل القرن الماضي) وقد يحسّون بأن العبارة مُجّت فيستبدلونها بـ "التحديث"، لكنهم دائماً رافعون لعصاً جاء بها طه حسين من باريس ويتكؤون عليها. لعل وعسى ينخرها النمل، فيعرف الناس أن "سليمان الحكيم" قد مات.
اقرأ أيضاً: في صداقة طه حسين