"باخِرة باطونيّة تزيّنها بعض النوافذ الملتوية"، هذا ما يرتئي لمُعظم طلّاب الجامعة الأميركية في بيروت حين نسألهم عن "مبنى عصام فارس للسياسات العامّة والشّؤون الدّوليّة" الذي ارتفع حديثاً في حرم الجامعة. آخرون يشبِّهونه بعربة المُشتريات. مبنىً يمتدّ على مساحة سطحيّة تفوق الثلاثة آلاف متر مربّع بارتفاع ستّة طوابق، يقع اثنان منها تحت الأرض، وهو من تصميم المعمارية العراقية زها حديد.
ما لا يعرفه مُنتقِدو التّصميم هو أنّ زها حديد قدّمت طلباً لدراسة العمارة في الجامعة الأميركية عينها ورُفض، لتعود هذه المؤسّسة وتراجع حساباتها بعد أقلّ من أربعة عقود فتختار زها للمهمة المعمارية المذكورة.
هندسياً، يمثّل المبنى معايير "المدرسة التّفكيكية" من خلال تجسيده ملامح التجزئة والسّيميائيّة، أي علاقة العلامات والرّموز وما تمثّله من دلالات فلسفيّة. يختصر بعض روّاد هذه المدرسة نظريّتهم بالقدرة على التّحكم بالفوضى عبر التلاعب بشكل المبنى ومساحاته الداخلية والخارجيّة لخلق نوع من الديناميكية، أي تحويله من مجرّد هيئة جامدة تلتصق بالأرض إلى واقع فنّي يختلط مع المارّة ونزلائه.
أهم رواد هذه المدرسة المعماري الأميركي الكندي فرانك غاري والهولندي رِم كولهاس الذي ساعد مع زميله الإنشائي الإيرلندي بول رايس المعمارية زها على تحقيق أحلامها. حدث هذا بعد إصرار الأخيرة على دراسة العمارة، فانتقلت إلى لندن، حيث نالت وسام تقدير من ملكة بريطانيا قبيل تخرّجها من "الجمعيّة المعماريّة" عام 1977؛ لتتعاقب بعد ذلك نجاحاتها في التعليم والعمل معاً، وتجلب لها شهرة دولية في ميدانها.
إعجاب زها بالمُدن الصناعية الصلبة وقناعتها العميقة بضرورة إيقاظ روح المدينة المستقبلي قبل أوانه يُفسّرا طبيعة تصاميمها. يتجلّى ذلك في "مبنى عصام فارس" الذي يقول المعماريون الذين شاركوا زها في تصميمه وتنفيذه إنه "يحترم نسيج محيطه، ديناميكيّ ومنفتح ليحتضن كافّة وجهات النّظر، والأهمّ أنّه يعبّر عن تقاليد المنطقة".
بعيداً عن منهجية وصفهم العلمي ودفاعهم عن فكرة التّصميم، لم تكن زها لتضيّع ربع قرن من الخبرة من أجل إنشاء مبنىً لا يتماهى مع محيطه الحاضر، وإن كان في مكانٍ ما يسلب أحجار المباني المحيطة به لونها. مبانٍ مضى على وجودها نحو 128 سنة، وبمعزل عن بعض التغييرات الأساسيّة وعمليّات الترميم المتكرّرة، لا تزال تتحدّى نفسها في الصّمود.
جمالياً، يخدم المبنى المشهديّة العامّة، والوظيفة المكانيّة وحركة الطلّاب على وجه العموم، لكن المعماري لا يصمّم الأبنية لإبهار أصحاب الاختصاص فقط، فعلى الحسّ الوظيفي أن يغلب على الحسّ الجمالي، أو على الأقل أن ينافسه، وليس العكس. أمّا على الصعيد الوظيفيّ، فالمبنى يفرض نفسه من خلال طغيان لونه الرّمادي الذي يظهر جليّاً من خلال خاميّة باطونه (Brut Concrete) ومساحاته الضوئيّة المختلفة. ويمكّنه تنوُّع مستويات الطرقات المحيطة به والمؤدّية إليه من خلق مساحات متنوّعة على الطوابق الثلاثة الأولى، إضافةً إلى كونه يقدّم نفسه على أنّه رابط فكري بين الأبنية والأماكن المحيطة به، مثل سكن الطلّاب والمساحة البيضاويّة في الوسط، والمنطقة الحرجيّة، والبحر من الخلف.
لا شك أنّ المعماريّة العراقيّة نجحت في خلق حيّز مثير للجدل، سواء من خلال دلالته الثوريّة مقارنةً بمحيطه، أو من خلال حركته المائلة ذات الدلالة التقدّميّة؛ من دون أن يمنع ذلك احترام المباني المجاورة منذ تأسيس الجامعة. وربّما يمهّد المبنى لرفض النّمطيّة السّائدة التي تشارك، من حيث لا تدري، في الدّعوة إلى إلقاء المرساة والاستسلام لجموديّة المكان، أيّ مكان.
"هناك 360 درجة"، تقول زها حديد، "لِمَ الالتصاق بواحدة؟".