في نهاية هذا الشهر، يلبّي زهير لَهْنا دعوة من جمعية الأطباء السوريين الفرنسيين ومديري مستشفيات الداخل السوري، لتدريب نظراء له في مستشفيات على الحدود السورية. بالنسبة إليه، "التدريب ينقذ من الموت".
في أحد مستشفيات باريس، كان الطبيب المغربي، زهير لَهْنا، يعدّ مع ممرضات توليد فرنسيات من أصول مغاربية، لرحلة تدريب تستهدف شابات مغربيات في جبال الجنوب المغربي. هناك، لا مستشفيات حكومية، في حين ما زالت عمليات الوضع تعاني من تعقيدات وخطورة. التقته "العربي الجديد"، وكان حديث عن مواضيع كثيرة حول عمله الطبي، خصوصاً الجانب الإنساني والإغاثي الذي شمل بلدانا عديدة من أفغانستان إلى أفريقيا، وأيضاً الضفة الغربية المحتلة وغزة.
اليوم يتهيأ لهنا للتوجه إلى سورية، حيث الوضع الإنساني والصحي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. هذه ليست رحلته الأولى إلى البلاد المشتعلة. بالنسبة إليه، هو لا يملك خياراً سوى مساعدة المستضعفين، علاجاً وتدريباً، "لأن الأمر واجب". ويحمل على "العرب والمسلمين الذين لا يحركون ساكناً وهم يشاهدون محنة الشعب السوري".
- تنشط اليوم في المجال الإنساني، هلا حدّثتنا عن ذلك؟
اليوم، أعمل من ضمن منظومة الأطباء والقابلات الذين يهدفون إلى تقليص وفيات الأمهات في أفريقيا، بالإضافة إلى المعالجة الجراحية لمخلفات الولادات الصعبة التي تتسبب بمشاكل جمّة، للنساء. ولأن قلّة هم الأطباء الذين يجرون هذا النوع من الجراحات، كان قراري السفر إلى تلك البلدان، وكذلك تدريب النساء وتوعيتهن لعلّهن يستفدن من ذلك. يُذكر أنّ حياة المرأة بعد عملية وضع صعبة، قد تتأثر سلباً لا سيّما اجتماعياً، حتى أن ذلك قد يتسبب في الطلاق أو في لجوء الزوج إلى التأهل من امرأة ثانية.
- لماذا تكون عمليات الوضع تلك صعبة؟
يعود ذلك إلى أنها تجري بحسب شروط مزرية، في البوادي والمناطق النائية وحتى في بعض المستشفيات. وما أنجز منذ عام 1978، أي منذ مؤتمر نيروبي (مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التصحر في كينيا) إلى الآن، كان ضعيفاً، لأننا لم نهتمَّ بالعنصر البشري الإقليمي الذي يستطيع مساعدتنا في الأخذ بيد هذه النساء. وفي أفريقيا كما في عالمنا العربي، من يمتلك إمكانيات مادية يقصد المستشفيات الخاصة أو يقدّم الرشى في المستشفيات العامة، فيما يُعامَل المساكين معاملة دونية. وأسأل هنا: أين هم هؤلاء المدافعون عن المرأة؟ أول حق للمرأة هو الحق في الحياة. وإذا كانت حية، عليها أن تعيش حياة شريفة وكريمة. والنّخب العربية لا تدافع إلا عن حقوق المرأة المثقفة والمتعلمة، أي نساء العالم الحضري.
- وماذا بخصوص العالم العربي؟
في عام 2000، انطلقت من وطني الأصلي، المغرب. بدأت أدرّب على الجراحة المهبلية في المستشفيات، وهي جراحة لم يتعلمها الأطباء في المستشفيات الجامعية. وفي عام 2002، سافرت إلى الضفة الغربية المحتلة. كانت الحواجز الإسرائيلية لا تدع النساء يصلن إلى المستشفيات، فكنّ يضعن مواليدهن عند المعابر، وكثيراً ما كان هؤلاء يموتون. ارتأينا استحداث برنامج للارتقاء بالمرشدات الصحيّات الموجودات في المناطق النائية لضمان الصحة الإنجابية. وكانت مفاجأة سارة، إذ إن الاهتمام بالنساء وطب النساء في فلسطين المحتلة، أكبر بكثير مما هو في البلدان العربية عموماً. وقد وجدنا أن 98 في المائة من النساء يلدن في المستشفيات، ونسبة المتابعة الصحية هناك كانت أفضل بكثير مما هي الحال في المغرب والجزائر وتونس وغيرها من الدول العربية. أذكر جيداً أنني قلت، إن هذا الشعب لا بدّ أن يكون قدوة للعرب في تحويل الضعف إلى قوة. وفي عامَي 2004 و2005، انتقلت إلى مدينة جنين (شمال الضفة)، لأدرّب نظرائي الفلسطينيين على الجراحة بالمنظار. أما أول لقاء لي مع غزة، فكان في عام 2009. وقد عملت في مستشفى للهلال الأحمر في خان يونس. وفي عام 2013، عدت لأدرّب على الجراحة بالمنظار في المستشفى الإماراتي في رفح، ومن ثم عدت خلال العدوان الأخير على القطاع في عام 2014.
اقرأ أيضاً: الفرنسيّون المسلمون.. الالتحاق بالأجهزة الأمنيّة متعسّر
- هل يأتي نشاطك في إطار العمل التطوعي؟
لا أومن بمصطلح العمل التطوعي ولا الإنساني، بل أرى إنه واجب على كل من يحمل رسالة ويحمل علماً ويحمل قَسَم أبقراط. أن أستخدم "علمي وسيلة لإنقاذ الناس ومنحهم كرامة"، هذا هو الشعار الذي يُحرّكني. وكان لتجربة 2014 وقع كبير عليّ لأني قضيتُ 51 يوماً في غزة، إذ لم يستطع الطاقم البديل الدخول. هكذا قررت البقاء وألغيت التزاماتي في فرنسا والمغرب. وحين سئلت عن شعوري قلت لهم إن عملي في فرنسا والمغرب، باستطاعة أي القيام به، بينما وجودي في غزة عملياً وإنسانياً له وقع إيجابي على إخواني الفلسطينيين.
- وماذا عن مهماتك في بلدان الربيع العربي؟
إلى ذلك، عملت في عديد من البلدان العربية أثناء الربيع العربي، وقد قصدت تونس وليبيا مرتين. كذلك قصدت اليمن بعدما أنجزت مهمة سريعة في مصر. قصدتها مع منظمة أطبّاء بلا حدود التي كانت تود العمل مع المسعفين المصريين في ميدان التحرير. وصلت بعد خلع الرئيس حسني مبارك، وكان الشغل أخفّ بكثير. لكنني استطعت جسّ نبضَ الشارع المصري. وأنا على ثقة أن مصر سوف تستفيق، شريطة أن تتحرك النخبة وتنحاز إلى الشعب.
- وتجربتك في سورية؟
في عام 2012، توجّهت مع أطباء بلا حدود ونساء من فرنسا إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن. هناك، كنت من أوائل الذين عملوا في مركز صحيّ للولادة. وقد أجريت أول عملية توليد هناك، لامرأة من درعا. حاولتُ الدخول إلى سورية، لكنني لم أنجح، قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2014. قبل ذلك، اتصلت بجمعية أطبّاء سوريين فرنسيين يملكون مركز تدريب في باب الهوى (شمال)، وكانوا يعدّون تدريباً حول طب الحروب. وبما أن الحرب طالت وحالة النساء وعمليات الوضع سيئة جداً، اتفقت معهم على تدريب طبيبات وقابلات لتطوير مهاراتهن. وكان الجرّاحون أكثرهم قد غادروا، فيما تولّد الحرب حالات صعبة ومعقدة لا تستطيع القابلات معالجتها. وفي سبتمبر/ أيلول 2015، نظمنا أسبوعاً للتدريب، قبل التوجه إلى حلب، حيث تهتم طبيبة نسائية واحدة بنحو 400 ألف شخص في مناطق سيطرة المعارضة. هي لم تكن قادرة على إجراء عمليات جراحية معقدة للنساء، فساعدتها ودرّبتها على بعضها. وامتدت تجربتي في حلب، قبل أن أنتقل إلى مناطق أخرى.
- أنت طبيب إغاثي وإنساني، وتصدر من حين إلى آخر تصريحات غاضبة. هل يمكن وصفك، أيضاً، بالطبيب المناضل؟
أفضّل تعبير طبيب ملتزم. لأن "المناضل" يصيح كلّ يوم، وأنا أوجد في العمل. وأحياناً ما تراه من غضب يصدر مني، هو ضروري، إذ يأتي على خلفية كرامة تُداس. لمعالجة كل مرض، لا بدّ للطبيب أن يشخّصه. وفي تشخيص الحروب، خصوصاً في سورية، ثمّة ظلم قائم. كيف تعالج من دون تشخيص؟ الأمر غير معقول. على سبيل المثال، الطبيب النرويجي مادس فريدريك جيلبرت الذي كان يصرخ في غزة خلال العدوان الأخير. أنت تعرف أنه لم يصرخ حباً بالصراخ، بل ضد الظلم، ظلم إسرائيل التي تقصف شعباً أعزل. أراد القول، إن هذا الشعب الأعزل، من حقّه أن يدافع عن نفسه. وأنا أغضب لأن الطبّ هو علم إنساني بامتياز. وفي جراحتي النسائية والتوليد، أرى الموت والحياة بشكل وثيق. المرأة يمكنها أن تلد ويزغرد كل الحضور، ومن ثم يصيبها نزيف فيتحول الموقف إلى جنازة. من جهة أخرى، أستطيع القول، إن أحبّ شيء إلى قلبي هو دعاء مريضة بعد جراحة ما وابتسامتها.
طبيب بلا حدود
في عام 1998، حصل الطبيب المغربي زهير لَهْنا على شهادة جامعية في طب النساء والتوليد من باريس. ومذ تخرّج، راح ينشط في العمل الإنساني، من ضمن اختصاصه. يشير إلى أنه كان قادراً على القيام بذلك من قبل، لكنه كان في سنوات التخصص، ولم يُسمَح له بالسفر. وعندما بدأ، راح يعمل مع جمعيات تهتم بهذا الشأن، كمنظمة "أطباء بلا حدود". وسافر معهم إلى بلدان أفريقية عدة، كجزر القمر وإثيوبيا والكونغو (زائير سابقاً)، حيث تسجَّل نسب كبيرة في وفيات الأمهات.
اقرأ أيضاً: قلق يتملّك أصحاب المكتبات الإسلامية في باريس