تعود التساؤلات لتحيط بإدلب شمال غربي سورية، بعد زيادة تركيا لحركة إرسال التعزيزات العسكرية إلى المحافظة الحدودية معها ولا سيما خلال الأسبوعين الأخيرين، وسط تكهنات حول استعداد أنقرة لانهيار وشيك لوقف إطلاق النار، من خلال مبادرة النظام وحلفائه من الروس والإيرانيين لشنّ هجوم واسع انطلاقاً من جنوب المحافظة، وتحديداً من جبل الزاوية. في موازاة ذلك، يذهب محللون إلى أنّ تركيا تحاول إظهار قوتها في إدلب و"منطقة خفض التصعيد" عموماً، بهدف إرغام النظام في مرحلة مقبلة على تطبيق اتفاق سوتشي المبرم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/أيلول من عام 2018، وإلزامه بالعودة إلى حدوده الجغرافية، وبالتالي الانسحاب إلى ما وراء النقاط التركية، تمهيداً لإعادة حوالي مليون ونصف المليون نازح إلى مدنهم وقراهم.
وفيما يُقرأ من انتشار التعزيزات التركية الأخيرة في النقاط الجديدة التي أحدثها الجيش التركي في جبل الزاوية وقرب خطوط التماس بما حملته من تحصينات إسمنتية وسلاح ثقيل دفاعي وهجومي، أنّ مهمة هذه التعزيزات أو النقاط الجديدة تكمن في صدّ هجمات جديدة لقوات النظام في حال قررت الأخيرة بدء عمل هجومي، فإنّ حجم الوجود العسكري التركي الكبير في إدلب عموماً، والذي زاد بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية ولا سيما بعد توقف العمليات العسكرية إثر اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار المبرم في الخامس من مارس/آذار الماضي، يشير إلى استراتيجية تركية أوسع من ذلك في هذه البقعة الجغرافية. وربما تتمثّل هذه الاستراتيجية في فرض واقع جديد تبدد فيه أنقرة أحلام النظام والروس والإيرانيين بالتوغل أكثر في المحافظة بغية السيطرة عليها كاملةً، والوصول إلى معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
منذ إبرام اتفاق موسكو، لا تزال أنقرة ترسل تعزيزات بشكل شبه يومي إلى إدلب لتعزيز وجودها العسكري هناك
ومنذ إقرار "مناطق خفض التصعيد" وفقاً لتفاهمات أستانة في مايو/أيار من عام 2017، نشرت تركيا 12 نقطة مراقبة حول "منطقة خفض التصعيد الرابعة" التي تضم كامل محافظة إدلب، وأجزاء من أرياف حماة الشمالي والغربي، وحلب الجنوبي والغربي، واللاذقية الشرقي. وقد تمكنت من تثبيت حدود هذه المنطقة خلال اتفاق سوتشي، إلا أنّ قوات النظام وبدعم روسي وإيراني ضربت بالاتفاقات عرض الحائط وتقدمت لتقضم مساحات واسعة من المنطقة انطلاقاً من ريف حماة الشمالي، ومن ثمّ توغلت شرق إدلب وجنوبها، وغرب حلب وجنوبها. وهو ما اضطر الأتراك لزيادة حجم نقاطهم ووجودهم في إدلب بادئ الأمر، ومن ثمّ شنّ عملية عسكرية ضدّ قوات النظام أواخر فبراير/شباط الماضي، توقفت بعد أيام في الخامس من مارس بإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، يتضمن تسيير دوريات عسكرية على طريق حلب – اللاذقية "أم 4" المار من إدلب، والذي تهدف روسيا لإعادة الحركة الطبيعة والتجارية عليه بأسرع وقت ممكن. ومنذ إبرام الاتفاق وتوقف العمليات، لا تزال أنقرة ترسل تعزيزات بشكل شبه يومي إلى إدلب لتعزيز وجودها العسكري هناك، بل عمدت إلى إنشاء نقاط عسكرية جديدة نشرتها في مناطق استراتيجية، على التلال والمرتفعات، ولا سيما في جبل الزاوية على حافتي الطريق الدولي. كذلك، عمدت إلى إدخال ثلاث منظومات دفاع جوي ونشرتها في أماكن متفرقة من منطقة خفض التصعيد، منها منظومتا "حصار إيه" و"أتيلغان" محليتا الصنع، بالإضافة إلى منظومة "MIM-23 Hawk" الأميركية. ويعدّ معسكر المسطومة وسط إدلب، ومطار تفتناز العسكري (قاعدة عفيص الجوية) أهم مركزين لتجمع القوات التركية، وقيادة عملياتها لما تحتويه النقطتان من آلاف العناصر والآليات.
وبحسب إحصاء لـ "مركز جسور للدراسات" صدر في السابع من شهر يوليو/تموز الحالي، فإنّ عدد النقاط التركية في "منطقة خفض التصعيد" وصل إلى 48 نقطة عسكرية، منها 12 نقطة مراقبة، أمّا الباقية فتعتبر بمثابة نقاط تمركز جديدة، ثبتها الجيش التركي بعد التطورات العسكرية الأخيرة. ويبلغ عدد النقاط في محافظة إدلب 45 نقطة، فيما تتمركز نقطة مراقبة واحدة في ريف اللاذقية الشرقي، ونقطتا مراقبة في ريف حماة الشمالي. ولم يأتِ المركز على ذكر النقاط المنتشرة في الجزء التابع لمنطقة خفض التصعيد في ريفي حلب الجنوبي والغربي، علماً أنّ عدداً من النقاط بات محاصراً من قوات النظام بعد عمليات التقدم الأخيرة.
ولا يوجد إحصاء دقيق لحجم القوات التركية في إدلب، إلا أنّ تقديرات "العربي الجديد"، تشير إلى وجود ما يقارب الـ20 ألف جندي، إلى جانب حوالي 6000 آلية عسكرية بين مدرعة ودبابة وعربة.
عدد النقاط التركية في "منطقة خفض التصعيد" وصل إلى 48 نقطة عسكرية
وحول زيادة التعزيزات العسكرية إلى إدلب، رأى القيادي في المعارضة السورية، العميد فاتح حسون، أنّ "إدلب تشكّل عمقاً استراتيجياً وأمناً إقليمياً هاماً لتركيا، فهي تشترك معها بـ 130 كيلومتراً من الحدود البرية. إلى جانب ذلك، هناك مشكلة محتملة أخرى تتعلق بمخاوف من تدفق المجموعات الإرهابية من إدلب ومحيطها نحو تركيا. وبالتالي، فإنّ دخول إدلب بالكامل تحت سيطرة بشار الأسد وروسيا، سوف يؤدي إلى تراجع الجماعات المسلحة الموجودة في المنطقة للشمال أي نحو الحدود التركية". وأضاف حسون في حديث مع "العربي الجديد": "بناء على ذلك، لن تسمح تركيا بسقوط إدلب بيد النظام الذي يعاديها منذ الشهور الأولى للثورة، ويعمل على دعم تنفيذ أعمال إرهابية ضدها. كما تدرك تركيا أنه لا يوجد خيار آخر بالنسبة لها سوى زيادة قوتها العسكرية بالمنطقة، لردع نظام الأسد والرد على خروقاته، في ظلّ تعنّت روسيا وإصرارها على فرض سياسة الأمر الواقع".
وعمّا إذا كانت تركيا ملتزمة بإعادة قوات النظام إلى ما وراء نقاط مراقبتها، تطبيقاً لاتفاق سوتشي، وهو مطلب لطالما أكدته أنقرة، أم أنها باتت ستلجأ لترتيبات جديدة وفقاً للواقع الحالي، رأى حسون أنّ "نظام الأسد ومن خلفه الروس، لن يتخلوا بسهولة عن المكاسب التي حققوها على الصعيد العسكري، وقيام تركيا بعملية عسكرية واسعة لإرجاع النظام خلف النقاط التركية أمر مستبعد حالياً، لأنه خروج عن الاتفاقات المبرمة مع روسيا، وسينعكس سلباً على المدنيين الموجودين في منطقة خفض التصعيد، وسيتسبب بموجات نزوح جديدة نحو الحدود التركية وأزمة إنسانية لا تستطيع تركيا تحمل تكلفتها. لذا، أعتقد أنّ تركيا ستحافظ على خريطة السيطرة الحالية، وستكتفي بتعزيز نقاطها العسكرية الموجودة في المنطقة، إلى حين توفر الظروف المناسبة لتبديل الواقع".
حسون: قيام تركيا بعملية عسكرية واسعة، لإرجاع النظام خلف النقاط التركية، أمر مستبعد حالياً
وعن إمكانيات القوة العسكرية التركية في إدلب، أشار حسون إلى أنّ "القوات التركية المقابلة لقوات النظام وروسيا في منطقة إدلب، قادرة من حيث القوى والوسائط، على أن تنتصر ليس فقط في حرب دفاعية، إنما في حرب هجومية كذلك، فطريقة الانتشار ونوعية الوسائط تحققان ذلك؛ إذ ينتشر في إدلب حوالي 11 ألف جندي تركي، إضافة لدبابات حديثة ومدرعات ومنظومات دفاع جوي ورادارات عسكرية ومعدات تشويش وآليات عسكرية ولوجستية ومشافٍ ميدانية متنقلة. كما أنّ تركيا تمتلك طائرات مسيرة أثبتت فاعليتها في سورية وليبيا، واستطاعت تلك الطائرات، من ضمنها بيرقدار، تدمير عدد من منظومات الدفاع الجوي الروسية، من طراز بانتسير، وذلك في كل من إدلب بسورية وليبيا". وتابع: "لكن العمل العسكري في الدول يخضع دوماً للقرار السياسي، ولا يبدو أنّ تركيا عاجزة في الميدانين عن تحقيق ما تريده".
بدوره، قال الصحافي والمحلل السياسي التركي هشام غوناي، إنه "من الواضح أن لدى أنقرة معلومات حول تخطيط النظام وحلفائه للقيام بعمل عسكري في إدلب، لذلك زادت من تعزيزاتها هناك"، مضيفاً: "كما أنّ أنقرة تريد أن تبعث برسالة ردع من خلال زيادة القوى العسكرية، بأنّ العمليات ستكون لها تبعات عسكرية، نظراً لقوة تركيا في إدلب".
وأوضح غوناي في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "تركيا ليست بوارد المبادرة لإرغام النظام على التراجع إلى حدود اتفاق سوتشي وفقاً للظروف الحالية، فالأهم بالنسبة إليها الآن مواجهة القوات الكردية شمال سورية وشرقها، وتقليل حجم سيطرتها، وقد تقتصر مهامها في إدلب على الدفاع عمّا تبقى من مساحات، منعاً لموجة نزوح جديدة نحو حدودها".