30 أكتوبر 2024
سؤال الذاكرة الوطنية في الجزائر
من القضايا المثيرة للجدل في الجزائر، ونحن في أجواء الاحتفال بذكرى الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني، تاريخ اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، تلك المتصلة بالذاكرة الوطنية وكيفية التعامل معها على خلفية ضبط إيقاع تحركات رجال السياسة في البلاد على وتر واحد: كتابة مذكراتهم وتضمينها، ليس ذكريات الكفــاح والنضال ضد المستعمر، ولكن الإشارة بالغمز واللمز إلى خلافات رجالات الثورة، جميعهم من دون استثناء، في أثناء الثورة التحريرية الكبرى (1954-1962)، وكأن الحرب لم تكن مع المستعمر، بقدر ما كانت بين هؤلاء للاستحواذ على مسار الثورة وقطف ثمارها بعد الاستقلال.
بدايةً، يجب الإشارة إلى أن مساهمات الجزائريين في تلك الثورة كانت شاملة، وتضحياتهم كانت بدون قدر تقف عنده، كما شاركت كل المناطق والقرى بالجهد نفسه، وتعرضت للتنكيل نفسه، حيث ساوت فرنسا بين الجزائريين في المعاملة، كما ساوت في وصم الجميع بالأهالي، في قانون أصدرته في 1870، حطت به من قدر الجزائريين في بلادهم، ليصبحوا أشباه عبيد للمعمرين الأوروبيين.
كما تجب الإشارة إلى أن الجميع في تلك الفترة كان متفقاً على تعيين العدو الذي يحول دون تمتع الجزائريين بالحرية والتنعّم بخيرات بلادهم: إنها فرنسا بجيشها، بمعمّريها، سواء كانوا حاملين جنسيتها أو جنسيات من سمحت لهم بالاستمتاع بخيرات الجزائر، أو بالنخبة التي عملت على تربيتها ثقافيا ورفعها اجتماعياً، لتكون "طابورها الخامس" في ترتيب شؤون الجزائر المستعمرة.
المذكرات...توثيق للتاريخ أم تهجّم؟
كان الأمر، في البداية، تنديداً بممارسات السنوات الأولى من الاستقلال، حيث ألّف فرحات عباس كتابه الشهير "الثورة المسروقة"، منتقدا فيه تحويل مسار الثورة التحريرية إلى حكم فردي، سواء من أحمد بن بلة أو هواري بومدين، الرئيسان الأول والثاني للجزائر.
وبعد ذلك، وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأت المذكرات تخرج للعلن، وفيها تهجمات الكل ضد الكل، وكأن الثورة التحريرية كانت جملة خصومات بين رجالات الثورة، انطلاقا من التحضير للثورة، أو ما يُعرف بالخلاف مع أنصار مصالي الحاج، ثم الأولوية لأحد الاتجاهين: العسكري أو السياسي، ونتيجته اغتيال منظّر الثورة، عبان رمضان، بعد محاكمة صورية له في المغرب، وصولاً إلى ما نراه، في الأيام الأخيرة، من التخوين بين مجاهدين (المعركة الأخيرة بين آخر الأحياء من مجموعـة الـ"22" والجنرال خالد نزار).
اتّسمت تلك المذكرات بالتهجّم ضد رموز الثورة، بدلا من الرفع من شأن مسار مقدس لشعب
عانى الأمرّين، قرناً ونيّف، على أيدي مستعمر غاشم، وكأن الجميع يحاول، بل يتعمّد، العزف على وتر التخوين والتهوين من شأن الثورة، والرمي بالذاكرة الجماعية إلى مزبلة التاريخ، وبالتالي، الإتيان على عمود من أعمدة الثوابت الوطنية إلى جانب الإسلام، اللغة العربية، العلم والنشيد الوطني.
بالنسبة للنظام، اتسم تعامله مع "الذاكرة الوطنية" بالازدواجية، حيث تم رفع شأن مشاركة بعضهم في الثورة، وحيت تم التكتم على أدوار قيادية لبعض رموز الثورة، بالنظر لانتمائهم لمناطق عارضت النظام في السنوات الأولى للاستقلال، على غرار العقيد عميروش (من المنطقة القبائلية التي حمل بعضهم فيها السلاح ضد النظام في 1963)، الذي تم التنكيل ببقاياه عقدين في قبو داخل ثكنة عسكرية في العاصمة الجزائرية، لتصبح موطئا للأقدام. واستمر التعامل بتلك الازدواجية إلى غاية الانفتاح الذي شهدته البلاد في 1988، لنشهد فيضا من "المذكرات" بالعربية والفرنسية لمجاهدين وسياسيين جزائريين، كلٌّ يدلي بدلوه، ولكن مناصرا لاتجاه ضد اتجاه آخر، وبسلاح التخوين في أثناء الثورة أو، على الأقل، الحط من شأن المشاركة، وصولاً إلى قمة الهوس في شهادة المجاهد المرحوم "محساس" (أحد قادة الثورة التحريرية) الذي قزّم من مشاركات الجميع، معتبراً نفسه "أب الثورة" دون الجميع.
تضمنت تلك المذكرات مغالطات كثيرة، وركزت بإفراط كبير على العثرات التي قل أن تخلو منها مسيرة ثورةٍ بحجم التي قادتها الجزائر لنيل استقلالها. وكان النظام يغذيها، إنْ بالسكوت على تلك المضامين، أو بعدم ترسيم خطواتٍ كان من الممكن أن تخطو بالثورة ورجالاتها وتاريخها نحو "الدسترة"، أي الإشارة إلى تجريم من ينال منها في الدستور، إضافة إلى وضع أسس للرفع من شأن "الشخصيات الوطنية"، إبعاداً لها من الانتقاد، ومنها تجريم النيل من الثورة كلها.
يجب التنويه، هنا، إلى أن ثمة شرعية تاريخية تم الاعتماد عليها في السنوات الأولى للاستقلال، قصد التعامل مع الظروف المتردية التي تركت فرنسا عليها الجزائر في كل الميادين، غداة الخروج منها. ولكن، تمت شرعنة تلك الشرعية، لتصبح حكرا على نخبة محددة، وخصوصاً منها التي بقيت متشبثة بالبدلة العسكرية عقوداً بعد 1962.
ارتكازاً على تلك الشرعية التاريخية، استفاد النظام كثيراً من الإبقاء على ملفات كثيرة في
الثورة، بعيدة عن نظـر المؤرخين وتمحيصهم، ليصار إلى العبث بها من خلال تلك المذكرات التي لم تكن منظمة في نشرها، أو متوافقة في مضمون ما احتوته، حفاظا على قدسية الثورة التحريرية. وقد تكون خطوة استمرار الحزب الذي قاد تلك الثورة، "جبهة التحرير الوطني"، في العمل بعد الاستقلال في أثناء الأحادية الحزبية، ثم في ظل التعددية باعتباره حزب السلطة، خطوة أخرى تدخل ضمن تكتيكات النظام في التعامل مع "قدسية الثورة". ولعل الإشارة إلى "تخوين" من يعارض ذلك الحزب من أمينه العام الحالي دليل على التلاعب الذي طال الثورة ورموزها، ومنها "جبهة التحرير الوطني".
ويثير العجب تعامل النظام مع تمجيد فرنسا الاستعمار ووصفه في قانون صدر في العام 2005 بالعمل الحضاري الكبير، حيث لم تطالب الجزائر بتعديل ذلك القانون، ولولا جمعيات المجتمع المدني على جانبي المتوسط في فرنسا والجزائر لما عدلت فرنسا القانون، وتراجعت عن ذلك التمجيد. وتبعاً لتلك التحركات، اقترحت جمعيات وأحزاب قانوناً يجرّم الاستعمار، ويؤسس لعلاقات مع فرنسا مرتكزة على المطالبة بالاعتذار على جرائم الاستعمار فترة الــ132 عاماً التي قضاها في الجزائر، وراح ضحيتها ملايين من الجزائريين. ماذا كان رد فعل النظام أمام تلك المطالبات؟ لم يكتفِ بصم أذنيه على سماعها، بل راح بعض ممثليه يردد في الجمعية الوطنية الفرنسية أن الموقف الرسمي الجزائري هو مع عدم ربط العلاقات بأي مطالبات، من قبيل الاعتذار عن تلك الجرائم.
تُضاف إلى ذلك مشاركة رموز تلك الثورة في الحكم بعد الاستقلال، عقوداً كثيرة في إطار حكم تسلّطي وفردي، لم تحقق الجزائر في ظله أي تقدم، بل تم تحويل الجزائر الثورية إلى دولة ريعية. والآن، يحاول بعضهم إلصاق تهم إيقاف المسار الديمقراطي في 1992، بشخصيات وصفت بالوطنية، وهي التي أودت بالجزائر إلى عشرية حمراء، ذهب ضحيتها قرابة 300 ألف من القتلى وآلاف المفقودين.
الاغتراب ومصير الذاكرة الجماعية
من كل ما تقدم، الأهم بالنسبة للأجيال في الجزائر هو "جرعة الاغتراب" الإضافية التي تزيد من إبعاد الشباب، بصفة خاصة عن الاهتمام بشؤون الأمة، بسبب ما يشهده من فارق بين "الواقع" و"الممكن"، حيث يرى بأم عينيه الصراع المحتدم بين صنّاع الماضي الناصع والذين ما زالوا متشبثين بالحكم، وكيف أنهم ضبّبوا ذلك الماضي، ولم يفتحوا لهم باباً، ليفهموا حجم المعاناة من ليل الاستعمار، ليبنوا على أساسه خطة السير إلى الأمام، عارفين بعدو الماضي ومرسخين مسار هوية الآن والمستقبل. مرد الإشارة إلى تلك الجرعة الاغترابية، أيضا، أن التنشئة مهمة جدا لتربية الأجيال. وإذا استمر الأمر على ما هو عليه من الحرب على "قدسية الذاكرة الجماعية"، فان الخطر كل الخطر هو زوال أسس يمكن الارتكاز عليها لبناء ثوابت تجمع بين الكل، وتمنع من الانزلاق نحو المجهول، على خلفية التطور المعولم لوسائل الاتصال، والتي يمكن التقاط الجيد والسيئ منها، من دون ذاكرة وهوية تصفيان ذلك الوافد الخطير.
تتغذّى جرعة الاغتراب تلك، أيضا، من الجنوح الأدبي في السنوات الأخيرة لكتّاب يريدون تغيير نظرة الجزائريين للتاريخ الثوري، حتى يشاهد بعيون فرنسية، جاعلين من "ليل الاستعمار" (عنوان كتاب للمجاهد فرحات عباس)، إلى "نهار" استفاد من ذلك الليل (عنوان رواية ياسمين خضرة "ماذا يدين النهار لليل"، صدرت ممجّدة للاستعمار، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي ساهمت وزارة الثقافة الجزائرية في تمويل إنجازه)، إضافة إلى ما يردده الروائي بوعلام صنصال، المطبّع مع العدو الصهيوني، بشأن عدوانية العرب والمسلمين ورغبته في التخلّص من موت حقيقي قد يحدث في 2084 على أيدي طغمة إسلامية، ستتحكم في شؤون العالم.
هل يمكن الوصول، يوماً، إلى إقرار تلك القدسية، والحفاظ، بالتالي، على ثابت من ثوابت الجزائر المتجذّرة في ذاكرتنا وتاريخنا المجتمعي؟ إنه سؤال مهم، على الجميع، حكاماً ونخبة، التفكير في الإجابة عليه، خدمة لذاكرة جماعية نورثها لأجيالنا المقبلة، لعلّها تؤسس عليها لبناء "الجمهورية الثانية" التي طال انتظارها في إطار مشروع ريادي وطني ومغاربي، في السنوات القليلة المقبلة.
بدايةً، يجب الإشارة إلى أن مساهمات الجزائريين في تلك الثورة كانت شاملة، وتضحياتهم كانت بدون قدر تقف عنده، كما شاركت كل المناطق والقرى بالجهد نفسه، وتعرضت للتنكيل نفسه، حيث ساوت فرنسا بين الجزائريين في المعاملة، كما ساوت في وصم الجميع بالأهالي، في قانون أصدرته في 1870، حطت به من قدر الجزائريين في بلادهم، ليصبحوا أشباه عبيد للمعمرين الأوروبيين.
كما تجب الإشارة إلى أن الجميع في تلك الفترة كان متفقاً على تعيين العدو الذي يحول دون تمتع الجزائريين بالحرية والتنعّم بخيرات بلادهم: إنها فرنسا بجيشها، بمعمّريها، سواء كانوا حاملين جنسيتها أو جنسيات من سمحت لهم بالاستمتاع بخيرات الجزائر، أو بالنخبة التي عملت على تربيتها ثقافيا ورفعها اجتماعياً، لتكون "طابورها الخامس" في ترتيب شؤون الجزائر المستعمرة.
المذكرات...توثيق للتاريخ أم تهجّم؟
كان الأمر، في البداية، تنديداً بممارسات السنوات الأولى من الاستقلال، حيث ألّف فرحات عباس كتابه الشهير "الثورة المسروقة"، منتقدا فيه تحويل مسار الثورة التحريرية إلى حكم فردي، سواء من أحمد بن بلة أو هواري بومدين، الرئيسان الأول والثاني للجزائر.
وبعد ذلك، وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأت المذكرات تخرج للعلن، وفيها تهجمات الكل ضد الكل، وكأن الثورة التحريرية كانت جملة خصومات بين رجالات الثورة، انطلاقا من التحضير للثورة، أو ما يُعرف بالخلاف مع أنصار مصالي الحاج، ثم الأولوية لأحد الاتجاهين: العسكري أو السياسي، ونتيجته اغتيال منظّر الثورة، عبان رمضان، بعد محاكمة صورية له في المغرب، وصولاً إلى ما نراه، في الأيام الأخيرة، من التخوين بين مجاهدين (المعركة الأخيرة بين آخر الأحياء من مجموعـة الـ"22" والجنرال خالد نزار).
اتّسمت تلك المذكرات بالتهجّم ضد رموز الثورة، بدلا من الرفع من شأن مسار مقدس لشعب
بالنسبة للنظام، اتسم تعامله مع "الذاكرة الوطنية" بالازدواجية، حيث تم رفع شأن مشاركة بعضهم في الثورة، وحيت تم التكتم على أدوار قيادية لبعض رموز الثورة، بالنظر لانتمائهم لمناطق عارضت النظام في السنوات الأولى للاستقلال، على غرار العقيد عميروش (من المنطقة القبائلية التي حمل بعضهم فيها السلاح ضد النظام في 1963)، الذي تم التنكيل ببقاياه عقدين في قبو داخل ثكنة عسكرية في العاصمة الجزائرية، لتصبح موطئا للأقدام. واستمر التعامل بتلك الازدواجية إلى غاية الانفتاح الذي شهدته البلاد في 1988، لنشهد فيضا من "المذكرات" بالعربية والفرنسية لمجاهدين وسياسيين جزائريين، كلٌّ يدلي بدلوه، ولكن مناصرا لاتجاه ضد اتجاه آخر، وبسلاح التخوين في أثناء الثورة أو، على الأقل، الحط من شأن المشاركة، وصولاً إلى قمة الهوس في شهادة المجاهد المرحوم "محساس" (أحد قادة الثورة التحريرية) الذي قزّم من مشاركات الجميع، معتبراً نفسه "أب الثورة" دون الجميع.
تضمنت تلك المذكرات مغالطات كثيرة، وركزت بإفراط كبير على العثرات التي قل أن تخلو منها مسيرة ثورةٍ بحجم التي قادتها الجزائر لنيل استقلالها. وكان النظام يغذيها، إنْ بالسكوت على تلك المضامين، أو بعدم ترسيم خطواتٍ كان من الممكن أن تخطو بالثورة ورجالاتها وتاريخها نحو "الدسترة"، أي الإشارة إلى تجريم من ينال منها في الدستور، إضافة إلى وضع أسس للرفع من شأن "الشخصيات الوطنية"، إبعاداً لها من الانتقاد، ومنها تجريم النيل من الثورة كلها.
يجب التنويه، هنا، إلى أن ثمة شرعية تاريخية تم الاعتماد عليها في السنوات الأولى للاستقلال، قصد التعامل مع الظروف المتردية التي تركت فرنسا عليها الجزائر في كل الميادين، غداة الخروج منها. ولكن، تمت شرعنة تلك الشرعية، لتصبح حكرا على نخبة محددة، وخصوصاً منها التي بقيت متشبثة بالبدلة العسكرية عقوداً بعد 1962.
ارتكازاً على تلك الشرعية التاريخية، استفاد النظام كثيراً من الإبقاء على ملفات كثيرة في
ويثير العجب تعامل النظام مع تمجيد فرنسا الاستعمار ووصفه في قانون صدر في العام 2005 بالعمل الحضاري الكبير، حيث لم تطالب الجزائر بتعديل ذلك القانون، ولولا جمعيات المجتمع المدني على جانبي المتوسط في فرنسا والجزائر لما عدلت فرنسا القانون، وتراجعت عن ذلك التمجيد. وتبعاً لتلك التحركات، اقترحت جمعيات وأحزاب قانوناً يجرّم الاستعمار، ويؤسس لعلاقات مع فرنسا مرتكزة على المطالبة بالاعتذار على جرائم الاستعمار فترة الــ132 عاماً التي قضاها في الجزائر، وراح ضحيتها ملايين من الجزائريين. ماذا كان رد فعل النظام أمام تلك المطالبات؟ لم يكتفِ بصم أذنيه على سماعها، بل راح بعض ممثليه يردد في الجمعية الوطنية الفرنسية أن الموقف الرسمي الجزائري هو مع عدم ربط العلاقات بأي مطالبات، من قبيل الاعتذار عن تلك الجرائم.
تُضاف إلى ذلك مشاركة رموز تلك الثورة في الحكم بعد الاستقلال، عقوداً كثيرة في إطار حكم تسلّطي وفردي، لم تحقق الجزائر في ظله أي تقدم، بل تم تحويل الجزائر الثورية إلى دولة ريعية. والآن، يحاول بعضهم إلصاق تهم إيقاف المسار الديمقراطي في 1992، بشخصيات وصفت بالوطنية، وهي التي أودت بالجزائر إلى عشرية حمراء، ذهب ضحيتها قرابة 300 ألف من القتلى وآلاف المفقودين.
الاغتراب ومصير الذاكرة الجماعية
من كل ما تقدم، الأهم بالنسبة للأجيال في الجزائر هو "جرعة الاغتراب" الإضافية التي تزيد من إبعاد الشباب، بصفة خاصة عن الاهتمام بشؤون الأمة، بسبب ما يشهده من فارق بين "الواقع" و"الممكن"، حيث يرى بأم عينيه الصراع المحتدم بين صنّاع الماضي الناصع والذين ما زالوا متشبثين بالحكم، وكيف أنهم ضبّبوا ذلك الماضي، ولم يفتحوا لهم باباً، ليفهموا حجم المعاناة من ليل الاستعمار، ليبنوا على أساسه خطة السير إلى الأمام، عارفين بعدو الماضي ومرسخين مسار هوية الآن والمستقبل. مرد الإشارة إلى تلك الجرعة الاغترابية، أيضا، أن التنشئة مهمة جدا لتربية الأجيال. وإذا استمر الأمر على ما هو عليه من الحرب على "قدسية الذاكرة الجماعية"، فان الخطر كل الخطر هو زوال أسس يمكن الارتكاز عليها لبناء ثوابت تجمع بين الكل، وتمنع من الانزلاق نحو المجهول، على خلفية التطور المعولم لوسائل الاتصال، والتي يمكن التقاط الجيد والسيئ منها، من دون ذاكرة وهوية تصفيان ذلك الوافد الخطير.
تتغذّى جرعة الاغتراب تلك، أيضا، من الجنوح الأدبي في السنوات الأخيرة لكتّاب يريدون تغيير نظرة الجزائريين للتاريخ الثوري، حتى يشاهد بعيون فرنسية، جاعلين من "ليل الاستعمار" (عنوان كتاب للمجاهد فرحات عباس)، إلى "نهار" استفاد من ذلك الليل (عنوان رواية ياسمين خضرة "ماذا يدين النهار لليل"، صدرت ممجّدة للاستعمار، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي ساهمت وزارة الثقافة الجزائرية في تمويل إنجازه)، إضافة إلى ما يردده الروائي بوعلام صنصال، المطبّع مع العدو الصهيوني، بشأن عدوانية العرب والمسلمين ورغبته في التخلّص من موت حقيقي قد يحدث في 2084 على أيدي طغمة إسلامية، ستتحكم في شؤون العالم.
هل يمكن الوصول، يوماً، إلى إقرار تلك القدسية، والحفاظ، بالتالي، على ثابت من ثوابت الجزائر المتجذّرة في ذاكرتنا وتاريخنا المجتمعي؟ إنه سؤال مهم، على الجميع، حكاماً ونخبة، التفكير في الإجابة عليه، خدمة لذاكرة جماعية نورثها لأجيالنا المقبلة، لعلّها تؤسس عليها لبناء "الجمهورية الثانية" التي طال انتظارها في إطار مشروع ريادي وطني ومغاربي، في السنوات القليلة المقبلة.