"لوحات حرب أهلية عالمية" هو العنوان الذي اختارته الفنانة السورية سارة شمّا (1975) لمعرضها الفردي الثاني في لندن، الذي استضافته أخيراً صالة "ستولن سبيس" في مجمع "أولد ترومان برويري" للفنون.
في معرضها الفردي الأول في لندن (2013)، الذي حمل عنوان "طابور"، كان تركيز شمّا منصبّاً على سيكولوجيا الجموع، والتغييرات التي تطرأ على الفرد عندما يصبح جزءاً من الجماعة متأثراً بها. وبالمقارنة مع "شتات"، معرضها الأخير في دبي (2014)، الذي ركز على المهجّرين والمبعدين، سنرى أن الموت بات الآن أطغى حضوراً في الألوان والانطباعات، واستُبدلت نظرات القلق والحزن على الوجوه المرسومة، بنظراتٍ تسرق من الموت قطعيّته، فتبدو قاتمة مكتومة.
شمّا المولودة لأب سوري وأم لبنانية تعتبر تجربتها الشخصية عن الحرب في سورية، وما أنتجته من موت وفقدان، الملهم الأساسي للوحات المعرض التي تقول بأنها تدور حول القتل في سورية، إلا أنها خرجت إلى فضاء أوسع مع روح الحرب المستعرة في اليمن ومصر وليبيا وفي أماكن أخرى من العالم.
يتكرّر ظهور الأعضاء البشرية في لوحات المعرض الست عشرة؛ قلوب وأدمغة وأكباد تتدلى من سلاسل حديدية وخطافات أمام أصحابها، في إشارة صارخة إلى الأجساد المنتهكة يومياً في الحرب السورية قتلاً وتعذيباً. إن التشوّه في أشكال الشخوص لم يُخلق طبيعياً كما هي عادة شمّا في تكوينه، بل جاء تحت وطأة أدوات تعذيب فجّة خانقة من جوارب نايلون وحبال.
يحضر الموت كذلك في البورتريه الذاتي المعتاد للفنانة التشكيلية أيضاً، فتحمل جمجمة وتضعها بالقرب من وجهها كأنما تستمع لوشوشاتها أو تشاركها لحظة حميمية، في حين يعيش بالون زهري معلّق بخيطٍ رفيعٍ أمامها آخر لحظاته، معلناً نهاية الأوقات الفرحة. ذات الخيط الرفيع نراه حاضراً في أغلب اللوحات، بتموضعٍ مقصود بين الرأس والرقبة، ملقياً بظلٍ يخلق بعداً إضافياً للوحة ويفارق بدقته ضربات الريشة العريضة على باقي التفاصيل.
زيت وأكريليك على قماش، 200 × 250 سم، 2014 |
وفي "قبر جماعي"، يفصل الخيط بين الواقع والمعقول، فنراه متوسطاً بين رؤوس مقطوعة تتكدس فوق بعضها، بعيون مفتوحة ونظرات ثاقبة، ودماغ بشري معلّق في فضاء اللوحة. أمّا في "أمل" يختفي الظل فيشكل فاصلاً قطعياً بين واقعية الطفلة النائمة في أعلى اللوحة وتشوّهات الألوان أسفلها.
لوحة "الجزار" تصوّر امرأة عرفتها شمّا في لبنان، حيث تستقر الفنانة حالياً بعد أن تركت سورية عام 2012. نشاهد في اللوحة "جزارة" يفزعها قتل الذبيحة في كل مرة، على الرغم من خبرتها التي قاربت 35 عاماً في ذلك العمل. عيونها الدامعة تحدّث بالأسى الذي يعتريها أمام قطعة لحم معلقة أمامها، في مشهد تقول عنه شمّا بأنه يُحدّث عن نقيضه الحاصل في سورية، حيث بات القتل اعتيادياً ولا تدمع عيون القتلة أمام ضحاياهم.
شمّا الحاصلة على جائزة "بي بي بورتريه" في لندن (2004) تعتقد بأنه من الصعب أن تحلم بالعودة إلى سورية لتعيش في سلام ذات يوم، حيث لا ترى شيئاً يدعو للتفاؤل في المستقبل القريب. إلا أنها تأمل، من خلال المعرض الحالي، في بعث أموات الحرب وصولاً إلى تخليدهم عبر الفن، علّه يخترق بلغته العالمية اللاوعي الإنساني، فتترك تلك الوجوه أثرها العميق في نفوس من يراها.
إن معرض "لوحات حرب أهلية عالمية" ضوء جديد على مأساة سورية. في عنوانه وفي لوحاته، تلعب شمّا على مفارقة "حرب أهلية/عالمية" فتدين الموت المجاني والعبثي لأبناء شعبها على أيدي أبناء شعبها، ومن جهة أخرى تقول إن هذا الموت صناعة دولية وجدت كيف تسوّق نفسها فوق جماجم وأجساد السوريين.