كابيلو لم يكن المعجب الوحيد، فأريغو ساكي، عراب الكرة الإيطالية وصانع أمجاد ميلان، وصف ساري بأنه خليفته خارج الخط، لدرجة أنه قام بترشيحه لتولي قيادة الروسونيري، لكن نابولي سبق الجميع في النهاية، ليحصل على أفضل صفقة ممكنة، ويعيد الجانب المفقود في الجنوب منذ أيام دييغو.
حكايات الجنوب
عندما تطير إلى إيطاليا، ويزاملك أحد المقربين في شوارعها وأزقتها، ستلاحظ سريعاً اختلاف الثقافات من مكان إلى آخر، وتباين الظروف الاقتصادية والجوانب الحياتية في كل مدينة، ومن بين كل أماكن هذا البلد العريق، تقف مدينة نابولي كأحد أقوى قواعد المعارضة لكل ما هو ثابت ومتعارف عليه.
المعارضة هنا ليست بالسياسة والبرلمان وكل هذه الطرق، بل تتعاظم تلك الكلمة لترتبط بهذه الرقعة الجغرافية، نابولي أمام روما، أيقونة الجزء البعيد في حالة خصام تام مع كافة مراكز القوى هناك.
وحصلت الكرة على نصيب الأسد من حالة العداوة، ليتحول فريق الكرة بنابولي إلى الدرع الذي يستخدمه سكانها من أجل الاعتراض على التهميش، بمباراة، ثم فوز، وأخيراً بطولة.
يقول دييغو أرماندو مارادونا، عن أجواء عاصمة الجنوب الإيطالي: "أحببت أهل هذه المدينة حتى الثمالة، لقد وقعت في حالة عشق متبادل منذ الوهلة الأولى، إنهم يتنفسون كرة القدم ويتابعونها من أجل المتعة، لقد كان الفوز بالأسكوديتو مثل الوسيلة لا الغاية، أرادوا فقط إيصال رسالة إلى هؤلاء بعنوان واحد، نحن هنا نستطيع هزيمتكم".
يصمت الرقم 10 ليصرخ سكان الركن المنسي من مدرجات السان باولو بعبارة صريحة: "الكرة الجميلة هي الغاية". "عشقت مارادونا أكثر من زوجتي. لا أخجل من هذه الحقيقة بل أفتخر بها على طول الأيام، لم أحبه بسبب البطولات فقط، ولا حتى طريقة تسجيله للأهداف، بل لأنه كان قريباً منا، يُشبهنا في صخبه، احتفاله، عصبيته، خروجه عن النص، وربما تعاطيه للمخدر"، قال واحد من عشاق نابولي عن مارادونا، ورغم أن هذه التصريحات تعتبر خاصة بفكر المدرجات إلا أنها تعكس إلى حد كبير طبيعة الأمور داخل نابولي، المدينة والفريق، الكل يسير نحو التمرد على المركز.
فحوص DNA
ارتبطت الكرة الجديدة بقواعد أساسية تهتم بالدفاع وإغلاق المناطق أولاً، صارت هذه النغمة هي السائدة حتى فترة قريبة، حينما عادت الكرة الهجومية إلى الواجهة رفقة بارسا غوارديولا ومن قبلهم بعض المحاولات لفينغر آرسنال وغيرهم. وبين هذا الجانب وذاك، يقف ماوريزيو ساري في منطقة التقاء الحداثة بالرومانسية في اللعبة، إنها خلطة غريبة الأطوار، من الصعب فهمها لكن من السهل الاستمتاع بها حتى وإن كنت أحد خصومها.
يستعين المدرب القدير بالأسماء الشابة في جهازه، واحد من هؤلاء يدعى فرانشيسكو سيناتي، أصغر معد بدني في البطولة الإيطالية، والشاب القادم إلى الجنوب بطلب مباشر من ماوريزيو، بعد رحلة مشتركة بين الثنائي في إمبولي. وعمل المساعد على إدخال أحدث الوسائل الطبية، بدراسة الحمض النووي لكل لاعبي نابولي، من الفريق الأول وحتى الفئات السنية، ليصبح أول ناد إيطالي يستخدم الـ DNA من أجل تقليل إصابات الملاعب ومحاولة الحد منها.
أفضل حل ممكن للحفاظ على انتعاشة اللاعبين، يكمن في تحويل التدريبات إلى ما يشبه المباريات، حتى لا يتأثر لاعبو الفريق بالمجهود المفاجئ، فتكثر حالات التمزق العضلي في الأوقات الحاسمة من الموسم. ويعمل سيناتي على هذه الأمور بالتوافق مع المدير الفني، فالمتابع الجيد لهذا الفريق يدرك جيدا مدى جدية التدريبات بعيدا عن المواجهات، كل هذا من أجل نقل حساسية المباراة إلى اللاعب حتى وهو بعيد عنها، مما ينتج عنه حالة استعداد مستمر تساعده في توقع الإصابة أو الحد من مخاطرها.
تقول لغة الأرقام إن نابولي أقل فريق إيطالي تعرضا للإصابات في فبراير/شباط من الموسم الماضي، فقط 4 إصابات مقابل 33 ليوفنتوس. ويؤكد المقربون من النادي أن ساري يقرر دائما المبيت بعد المباراة الأوروبية، ومن ثم السفر والعودة في اليوم التالي، لينفذ نصيحة مساعده البدني، لتقليل أضرار الإرهاق خصوصا مع كثرة المباريات محليا وقاريا.
بائع القهوة
لا ينافس ساري أحدٌ في الأمور التكتيكية، هو الرجل الذي وصفه موقع الاتحاد الأوروبي للكرة بأنه "ميستر 33"، نظرا للخطط التكتيكية العديدة التي يتقنها، لكن كل هذا لم يأت من فراغ، لأن الأصل في كل ذلك يعود إلى إدمان القهوة، الشيء المشترك بينه وبين ساعده الأيمن وعامل قوته الأول، فرانشيسكو كالزوني.
كالزوني بائع متجول قديم في أزقة إيطاليا، يصنع القهوة ومذاقها، لذلك اشترك مع ماوريزيو في أمرين، عشق البن وفهم كرة القدم. ويمتاز المساعد بأنه خبير تكتيكي من العيار الثقيل، إذ يهتم كثيرا بمراقبة الفرق والمنافسين، ليس فقط لدراستهم بل للتعلم منهم، ومعرفة مدى تطور خطط فريقه.
عمل فرانشيسكو على تطوير استراتيجية "تدوير الكرة" داخل فريق نابولي، من خلال تدريبات مستمرة يشارك فيها كل اللاعبين، من خلال دوائر صغيرة بها أكبر قدر ممكن من الأقدام. الهدف من كل ذلك تمرير الكرة بأسرع وقت ممكن، مع التصرف بشكل مثالي تحت الضغط. واستفاد اللاعبون كثيرا من أفكار ساعد ساري، لذلك أصبح نابولي أفضل فريق إيطالي في ما يخص البناء من الخلف.
يعرف الرجل الثاني كرة القدم جيدا، ويقول عنها في أحاديثه الخاصة:"هذه اللعبة خلقت للشمولية، يجب أن يتم فهمها بأكثر من أسلوب، حتى نصل إلى أقصى أهدافها في النهاية"، لذلك يعتبر بمثابة الذراع الرئيسي في جعل الفريق أكثر تنوعا، من خلال الكرات القصيرة، التمرير الطولي، والمزج بين أسلوب الحيازة واللعب العمودي المباشر في قالب واحد.
موظف البنك
يعرف المقربون من ماوريزيو ساري ماضيه الغريب، ابن الطبقة العاملة الذي جمع بين الوظيفة والهواية، حيث أنه عمل في بداياته كموظف بنك مختص بالحسابات، بالإضافة إلى ولعه بالتدريب وعمله مع أكثر من فريق، حتى قرر بشكل نهائي ترك وظيفته البنكية، والتركيز فقط مع معشوقته، حتى يثبت للجميع أنه مدير فني ناجح، وشخص يفهم التكتيك بطريقة مغايرة.
ويبدو أن عمل ساري القديم جعله مدربا يفهم التعامل مع لغة الأرقام، حيث أنه يستفيد كثيرا من الإحصاءات في رصد مستوى نجومه، ومعرفة أوجه القصور التي تعاني منها المجموعة، وبالتالي تميز نابولي مؤخرا بالقدرة على التكيف مع كافة الظروف، لأن الفريق يعرف كيف يدافع، ويملك أسلحة هجومية عديدة، تبدأ بالتمرير من الخلف، مع الاحتفاظ بالكرة ونقلها في وبين الخطوط، للضرب باللعب السريع إلى الأمام أثناء التحولات.
الأرقام مهمة على الصعيد التكتيكي والمالي أيضا، فبعد رحيل نجم الفريق، غونزالو إيغوايين، إلى المنافس الأساسي يوفنتوس، توقع معظم المتابعين سقوط الفريق الجنوبي سريعاً، وانتهاء المنافسة لأجل غير مسمى على اللقب، لكن الشيء الغريب حقا هو احتفاظ نابولي ببريقه، واستمراره في السباق رفقة السيدة العجوز.
الكرة الأمتع
"لم نتوقع أبدا هذه السرعة في اللعب، لقد واجهنا فريقا من الأفضل في أوروبا"، عبر روي فيتوريا مدرب بنفيكا عن إعجابه الشديد بمنافسه نابولي، بعد مباراة دوري أبطال أوروبا الأخيرة، وهذا يدل على نجاح ساري ورفاقه في تعويض إيغوايين، وصناعة فريق رأس ماله التهديف واللعب الجريء القائم على صناعة الفرص باستمرار.
تعاقد نابولي مع أسماء عديدة، لكن هناك ثلاثي لا بد من الوقوف أمامه، الأول هو زيلينسكي البولندي، النجم الذي يجيد اللعب في مركزي الجناح والوسط، والثاني هو مواطنه ميليك، المهاجم القوي الذي يسجل الأهداف بجميع الزوايا والاتجاهات، ليشكل هذا الثنائي تدعيما حقيقيا في مركزين من الملعب، ويُنسي الجمهور رحيل الأرجنتيني سريعا، بينما الثالث هو دياورا، الشاب الأفضل في الكالتشو بالموسم الماضي، لتدعيم منطقة الوسط بعديد الخيارات رفقة جورجينيو، ألين، والبقية.
لا يزال الموسم في بداياته والمشوار طويلا، ورغم أن كل السيناريوهات ممكنة أمام الجميع، إلا أن نابولي صنع لنفسه نموذجا خاصا برفقة مدربه ساري، حيث الجمع بين الإمتاع والإقناع، بلعب الكرة الجميلة التي تناسب تطلعات وأحلام الجماهير، مع الحفاظ على النص النهائي بتحقيق الانتصارات والإبقاء على المنافسة محليا وأوروبيا، في انتظار موسم أفضل للفريق الأمتع في أوروبا خلال هذه اللحظة.