سامر رضوان لـ"العربي الجديد": علينا إسقاط مصطلح "الدراما المشتركة"
هل يطمئن الكاتب الدرامي عند الغياب أكثر، أم عند العودة والحيرة حول وقع العمل الجديد؟!
لا أتصور أن مصطلح الاطمئنان وارد في قاموس أي مشتغل بالحقل الكتابي، كون الكتابة فعل قلق، لا يحيل إلى حالة رضى دائمة أو حتى مؤقتة، ربما يصح السؤال لو كان مرتبطاً بانتهاء المهمة، أي الموافقة على الشكل الذي منحك إياه زمن الكتابة، لكن الاطمئنان لا يتحقق حتى بعد زمن العرض، فما بالك قبل زمن التنفيذ، ولو عاد بي الوقت لحذفت وأضفت العديد من مشاهد لعنة الطين، أو الولادة من الخاصرة بأجزائه الثلاثة.
أصررت على العودة بنص سوري، هل دفعت ثمن ذلك غياب ثلاثة سنوات؟
لا أعرف كيف يمكن التجرؤ على بيئة لا تنتمي إلى خصائصها ولا تعرف أدق تفصيلات الحياة فيها، إلا إذا كنا نتحدث عن مشاريع وقتية تموت بانقضاء موسم عرضها، أما أن تحلم بدراما تمتلك إمكانية الحياة، فلا بد من الانتماء إلى المكان، وما يفرزه هذا المكان من طبيعة علاقات، وسياق لفظي، وأنماط سلوك، ودوائر ردود أفعال.
إن الكتابة ضمن زعمي ليست إنتاج الحكاية، فهذا من اختصاص الجدّات ورواة المقاهي، الكتابة هي منظار الكاتب النقدي لمكان ينتج حكايته.
أما الحديث عن الأثمان فهو محض ادعاء، لم أدفع أثماناً، القصة ببساطة أن شروط إنتاج عمل لي لم تكن متحققة، ولهذا غبت.
افتقدت الدراما السورية خلال سنوات الثورة دراما تلعب على مكاشفة النظام، فهل تجد أن الدراما هي ملعب لمقارعة السلطة؟!
الكتابة بكل تصنيفاتها صرخات احتجاج، تحمل هجاءً للواقع وحلماً بواقع أكثر رحمة، وكل سلطة قامعة تهدم هذه الرحمة وترمي الحياة إلى نهر من القهر، أتحدث عن مطلق السلطة باستثناء سلطة القانون: اجتماعية أو سياسية أو دينية، إنها أدوات لإنتاج الكراهية، وتمكين الألم. لذلك لا تستقيم الكتابة في معجمي الشخصي إلا بمقارعتها ومحاولة مجابهتها، ولو بمرآة صغيرة توضع في وجهها كي ترى حجم بشاعتها.
ومن سوء حظ الكتاب الذين يعيشون هذه المرحلة المسمومة أن زمن الرصاص قذفهم إلى أقصى أقاصي الألم، ألم الهوية والسلطات المتكالبة على تمزيقها من أجل العرش. فكيف ستضع عينك في عين نصك وأنت تكتب عن الأنهار والزهر في زمن الدم! لهذا لا يمكن كتابة عمل درامي دون وجود السلطة، بغيابها يصبح العمل ناقصاً، أو معقماً، بل خائناً في بعض الحالات.
تغيير هوية أم اجتزاء أم تعديل، كيف تصنّف دخول الإطار اللبناني في توزيع وتسويق العمل؟!
هذا أحد الالتباسات النقدية المشاعة في المنطقة فحسب، والحديث عن خط لبناني وسوري ومصري لا يجرى الحديث عنه في أي دراما عالمية على صعيدها النقدي أو الشعبي، وكأن هناك أجهزة كبرى تعمل على إشاعة هذا الفهم الغريب وتعميقه .
تعال لنتذكر ظهور عمر الشريف في أفلام أميركية وكيف استقبله الجمهور، أو، أعطني مثالاً واحداً عن أعمال كبيرة استاء الشارع الغربي من وجود جنسيات متعددة فيها، هل بريكنغ باد لممثلين أميركيين فقط، هل غيم أوف ثرونز كذلك، هل "بلاك ميرور" مفروز على أساس جنسية الممثل؟
إذا كان السرد القصصي يفترض وجود ممثل روسي وآخر أميركي في هاوس أوف كاردز، كيف سآتي بممثل أميركي ليعلب شخصية روسية، هنا برأيي تكمن الخيانة للصناعة.
إذاً المشكلة ليست في الجنسيات المتعددة اللازمة لإتمام الحكاية، المشكلة في العقل الذي صاغها ولم يكن قادراً على تبريرها وإقناع المشاهد بضرورتها، كما في أغلب الأعمال المشتركة التي تركت هذا الانطباع وغذته لدى الجمهور، والمشكلة أيضاً أنّه في العقل الإنتاجي الذي لا يعنيه تأسيس علاقة احترام مع مشاهده، فيجلب شخصية لبنانية لدور سوري كما حدث معي في دقيقة صمت، الإدانة عليها أن تذهب إلى مستحقيها، وليس إلى مفهوم تعدد الجنسيات.
لهذا أرى أن علينا إسقاط مصطلح الدراما المشتركة من معجم التداول النقدي، واستبداله بحكم قيمة: دراما رديئة الصناعة، ودراما مصنوعة بمهارة، فكل رواية تلفزيونية تجعلك تنتبه إلى جنسية الممثلين قسرياً، وتبعدك عن متابعة أجوائها لإحصاء جنسيات أبطالها، لا تستحق التصنيف.
أنت كائن متعب في المفاوضات، من ناحية اختيار الكادر الفني وترشيح الممثلين وآلية تنفيذ العمل، ألا يحملك ذلك مسؤولية كبرى في حال لم يخرج العمل بالسوية المطلوبة؟
منذ البدء، أعنى باختيار شريكي (المخرج) الذي سيكون الصانع للفضاء النهائي للعمل، وعند تحقق النيّة في إقامة فعل الشراكة بمعناه الأقصى، يصبح الحديث عن اختيار ممثل أو فني جزءاً من فعل الحوار بمعناه الخلاق، وشكلاً من أشكال الاستئناس برأي الشريك، وحين الحديث عن شراكة حقيقية أيضاً، تتلاشى (أنا) السلطة وتحل مكانها (أنا) الخلق، يذهب الشريكان بشكل أوتوماتيكي نحو الفكرة الصائبة بغض النظر عن هوية من طرحها أو صاغها. وقد كنت محظوظاً بمخرجين يمتلكون سمات القائد الشريك العارف، وليس القائد المستبد الأخرق.
في ظل الصراع على وجود نص سوري خالص في الدراما، ألا تجد أن الكاتب هو أضعف حلقات العمل الدرامي هذه الأيام؟
عند الحديث عن رأس المال، يصبح كل شيء ممكناً أمام سلطته، إنه الدكتاتور المطاع في حال تواجد الرعية حانية الظهر، عليك أن تختار إذن، إما أن تكون من بين هذه الرعية وقادراً على تقديم التنازلات طمعاً بنفعية الحضور، أو أن تكون غير متوافق مع برنامج عملها، وتنأى بنفسك ريثما تتحقق شروط لا تفرض تسوية مذلة.
على صعيدي الشخصي، لم أسمح لصاحب مال أن يرتاح في مخاطبتي، كبيراً كان أم صغيراً، أو مخرجاً يفهم من الإخراج أنه الصوت الأعلى وموزع الأوامر، أو نجماً يعتبر أن العمل قائم على نجوميته، لأنني فهمت أن العمل الجماعي توزع للأدوار، كل حسب اختصاصه ومقدرته، ثم إنّ الكتابة هي بذرة الخلق الأولى، فكيف يقبل الكاتب أن تكون روحه ذليلة وضعيفة.
كنت وما زلت مؤمناً أن الاحتجاب المصان حضور محترم، ولا أجد أن الكاتب ضعيف إلا إذا قبل أن يكون كذلك، أما إذا كنت تتحدث عن صناعة المشروع، فهناك اتفاقات ضرورية تخضع لقراءة زمن التلقي وهوية جمهورك، على الكاتب تفهم هذه الظروف بالاتفاق مع المجموعة الصانعة، وليس رهناً لأوامرها.
للمرة الثانية توغل في نصوصك نحو الساحل السوري، فهل تجد فهم عقلية النظام الأمنية تبدأ من رواية فكر حاضنته الشعبية؟
لا أعرف معنى كلمة توغل الواردة في سياق السؤال، خاصة أن لعنة الطين الذي تقصد أنه أوغل في قراءة قرية ساحلية، كان نصفه الثاني مليئاً بالمدينة وعلاقاتها وتعقيدات بنيتها، لهذا لم تكن القرية هي غاية البحث في ذاك العمل، وهي ليست كذلك في دقيقة صمت.
أما أنني أذهب إلى الساحل للإشارة إلى العصبية الأولى التي اعتمد عليها نظام الأسد، فهذا حقيقي، لكنني لست ساذجاً لأساوق بين عقلية هكذا نظام أفعى، وبين مجموعة من الناس قبلوه تحت وهم دوافع يطول شرحها، اللاذقية في النص هي مكان أدبي، لأنني أرى أن الرواية القابلة للعيش تمتلك قدرة على التعالي عن زمنها ومكانها، وإن بدت، بمكرٍ منها، وكأنها منتمية إلى زمان مضبوط الأرقام ومكان بدلالة واضحة، إن استطعت أن تفعل ذلك، سيحاول أي زمان وأي مكان أن ينتمي إلى روايتك.
ابتعدت في دقيقة صمت عن تسمية الأماكن بمسمياتها ولا سيما السجن منطلق الأحداث، هل تخشى من ضريبة الإسقاط التي حدثت في ثالث أجزاء الولادة من الخاصرة؟
لا أكتب إلا ما يقبل الإسقاط، كل كتابة لا تحيل إلى واقع عقيمة التواصل، حتى في قصص الخيال العملي هناك شاخصات تؤدي إلى أحداث يمكن أن يقبلها الواقع ويمكن أن تؤدي إليه، لهذا أميل إلى إطلاق المعنى بتجهيل المكان وطمس أحرف اسمه قدر ما يسمح به الفضاء الروائي، فحصر الإشارة المطلقة بالتسمية المقيدة، قد يودي بك إلى الوثيقة، ولا أزعم أنني أمتلك وثيقة تؤكد فرضياتي في دقيقة صمت.
صحيح أنني أتحدث عن سورية في النهاية، لكن سورية هي مكان روائي قابل للانسحاب على بلدان متشابهة النظم الفكرية والسياسية.
الغدير بات بحكم الأمير، هل بانتظارنا مسلسل خفّف دسمه بعد اجتيازه الحدود ليصوّر داخل دمشق؟
نعم بكل تأكيد، فتغيير اسم البطل ناتج عن مخاوف ترتبط بدلالة الاسم طائفياً، وهذا ليس التغيير الوحيد، هناك طمس للسبب الذي من أجله تم إعدام الشهود المطلوبين إلى محكمة دولية، للإدلاء بما لديهم في قضية اغتيال شخصية لبنانية، حيث صارت المسألة أنهم سيشهدون على قضية فساد تخص إحدى الشخصيات في العمل. لكن رغم هذه التغييرات، لا شيء سينقص من دلالات.
قلت في الولادة: هناك عنف في الطفولة، يولد توحشاً كمنهج للعنف عند الكبر، ما المقولة التي تريد إيصالها في دقيقة صمت؟
هناك شارع جاهز للقبول بأسفل فرضيات السلطة، حتى لو لم تكن هذه الفرضيات مقبولة من عقل معتل، فما بالك بعقل صحيح، السلطة في سورية شر مطلق دفع البسطاء أثمان تغوله.
هل خسر من اختار الخروج من دقيقة صمت برأيك من أسماء مرشحة فضلت أعمالاً ثانية؟
خسرنا جميعاً، أنا وشوقي الماجري والمشاهدون، وربما خسر من لم نستطع الاتفاق معهم أيضاً، كنت أتمنى لو استطعنا الحفاظ على قائمة الممثلين الذين هيأناها قبل البدء بعملية التصوير.
ختاماً، الساحة تضج بأرباع وأشباه الأقلام الدرامية، كيف نعيد للنص الدرامي هيبته الحقيقية وليس الاستعراضية؟
أنصاف الأميين موجودون في كل العصور، رأس المال هو الفيصل، إما أن يتركها في القاع تسبح في وهمها، ويكون صاحب مشروع وطني أو فني، وإما أن يستجلبها من قعر الجب طمعاً بتوفير لقيمة دراهم، ويصبح بذلك مسخاً شبيهاً بها.
لا أجرِّم من يريد دخول معترك الكتابة ولا يمتلك أدواتها، أدين من سوّل له أنه يستطيع القول، ويمتلك المشروعية في أن يقول.