وجاءت انتخابات 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لتقدم مشهداً سياسياً جديداً، عصف بكل الأفكار السابقة التي بُنيت على ثنائية حركة النهضة وحزب نداء تونس، وحالة الاستقطاب الثنائي التي أطاحت بأحزاب وشخصيات تاريخية في البلاد.
ولم يلبث المشهد أن تغير بسرعة لافتة بعد التقارب الكبير بين المتنافسيْن اللدوديْن، ودخولهما في تحالف حكومي واسع مع حزبين آخرين، هما آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر، ما أسقط مقولة الاستقطاب من جهة وأربك مكونات المعارضة التي أضعفتها نتائج الانتخابات وقوة التحالف في البرلمان من جهة ثانية.
اقرأ أيضاً: أحزاب تونس تدفع فاتورة الانتخابات
غير أن الساحة السياسية التونسية تدرك أن الحزبين المذكورين (النهضة والنداء)، لم يتوصلا بعد إلى تحالف عميق يستند إلى مرجعية سياسية وفكرية متينة. وهما الآن بصدد الاختبار المتبادل. وتعول أصوات سياسية تونسية كثيرة على هشاشة التحالف وإمكانية سقوطه في أي لحظة، وخصوصاً أن حركة النهضة وحزب نداء تونس يستعدان لمؤتمرين حاسمين في تاريخهما، مع ما شاب الفترة الأخيرة من تعالي أصوات بداخلهما تعارض هذا التقارب وتنكر واقعيته.
وتراهن الأحزاب المعارضة على اقتراب سقوط التحالف الحكومي بعدما شهد موجة من الانتقادات المتبادلة من داخله، بالإضافة إلى فشله إلى حد الآن في صياغة خطاب سياسي يمكن أن يقنع التونسيين، ما رفع من وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية في مدن تونسية عديدة. وتتوقع الأحزاب المعارضة نفسها أن يقود هذا التململ الى إعادة النظر في التشكيل الحكومي وبالتالي في المشهد السياسي برمته.
إزاء هذا المشهد، وبعد فترة مراجعة وصمت طويلين، شرعت الأحزاب المعارضة في إعادة بناء صفوفها، وصياغة مقارباتها بما يتيح لها إعادة التموضع من جديد كخيار بديل.
وشهدت الأيام القليلة الماضية ثلاثة أحداث سياسية بارزة تزامنت بالصدفة ربما، لكنها بدأت تعلن عن نفسها خياراً سياسياً بديلاً ممكناً.
وصدرت هذه المبادرات عبر "حراك شعب المواطنين" الذي يقوده الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، والجبهة المدنية السياسية التي أعلن عنها حمادي الجبالي رئيس الحكومة التونسية الأسبق، والجبهة الديمقراطية الاجتماعية التي تضم سبعة أحزاب من بينها حزب التكتل الذي يقوده مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي السابق، والحزب الجمهوري لأحمد نجيب الشابي وحركة الشعب لزهير المغزاوي وأربعة أحزاب أخرى.
ويأتي هذا التزامن في الإعلان عن المقترحات الجديدة ليعبر عن الرغبة الكبيرة للساحة السياسية التونسية المعارضة، في تقديم مقترح سياسي بديل، وربما ليعكس الحاجة إليه ايضاً، في مواجهة التحالف الحكومي الواسع الذي لا يجد له معارضين تقريباً داخل البرلمان، باستثناء أصوات الجبهة الشعبية اليسارية وبعض الأصوات المتناثرة التي لا تشكل وحدة أصوات بإمكانها التأثير في القوانين.
غير أن هذه الأحزاب تدرك أن الشارع التونسي، بما يشمله من منظمات نقابية وجمعيات مجتمع مدني وإعلام متحرر، بإمكانه أن يشكل قوة ضغط حقيقية على الحكومة، ويمكن أن يكون بديلاً عن البرلمان، يؤثر في صياغة القوانين ويحدّ من سيطرة التحالف الحكومي.
ويبقى السؤال الأهم، الى أي حدٍّ يمكن أن تشكل هذه المبادرات الثلاث خياراً أو خطاً ثالثاً للساحة السياسية التونسية. وما هي جديتها وقدرتها على تقديم رؤية مختلفة للشأن التونسي يمكن أن تكون قادرة على كسب المعارك الانتخابية المقبلة وأولها الانتخابات البلدية.
أول ما يلاحظ أن هذه الأصوات المعارضة تصرّ على تفرّقها، بالرغم من نقدها المتواصل لـ"تشتت الأصوات" في الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية. وفُهم من تزامنها "الغريب" أنها في الواقع تتنافس في ما بينها قبل أن تنافس التحالف الحكومي أو النهضة والنداء. ويُطرح التساؤل أيضاً حول العمق الشعبي والسياسي الذي تمثله هذه الأحزاب، وخصوصاً مع نتائج الانتخابات الماضية التي لم تمنح بعض هذه الأحزاب مقعداً واحداً داخل البرلمان، وبعد موجة الاستقالات الكبيرة التي عرفها بعضها الآخر في الأيام القليلة الماضية، باستثناء المرزوقي الذي ينطلق من المد الشعبي الذي عرفه خلال الانتخابات الرئاسية، والذي يرغب في إعادة تجميعه لتشكيل حراكه الجديد، على الرغم من أنّ جزءاً كبيراً منه ينتمي الى قواعد حركة النهضة. وهو ما دفعه الى صياغة خطاب قريب من خطاب حملته الرئاسية، يستعيد فكرة الثورة ويتصدى للمنظومة القديمة ويرفض، في رسالة الى اليسار، اعتبار الإسلاميين "عدواً إيديولوجيّاً". وهو نفس الخطاب الذي استهوى جزءاً كبيراً من التونسيين الذين صوتوا له، بمن فيهم جزء من قواعد حركة النهضة.
زهري المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب المتحالف في الجبهة الديمقراطية الاجتماعية الجديدة، يرى في حديث لـ"العربي الجديد" أن الساحة السياسية التونسية مرّت بثلاث مراحل، أولها انتخابات 2011 التي تمحورت حول صراع الهُويّة، والثانية في انتخابات 2014 التي كان عٓصٓبُها الاستقطاب الثنائي بين النهضة والنداء، وما رافقها من حوار أو صراع بين القديم والجديد، وهذه المرحلة التي نعيشها الآن وهي مرحلة البدائل الاقتصادية والتنموية، وتقديم مقترحات حقيقية للتونسيين بإمكانها إقناعهم بجدواها في مواجهة مخاوفهم الكبرى، الاٍرهاب والحرية غلاء المعيشة".
غير أن الحقيقة هي أن هذه المطالب تشكل بالتحديد مطالب الثورة ولم يُضف إليها إلا الوافد الجديد أي مقاومة الاٍرهاب.
وتثبت آخر استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة "سيقما كونساي" أن شعبية عدد كبير من أعضاء الحكومة في تراجع، وأن نسبة رضا التونسيين عن هذه الحكومة ضئيلة على الرغم من عمرها القصير إلى حد الآن، وهو ما يقود إلى التساؤل بجدية حول مدى استطاعة هذه الأحزاب والمقترحات السياسية على إقناع التونسيين بقدرتها على تحقيق مطالبهم.
اقرأ أيضاً: صيف سياسي ساخن للأحزاب التونسية