وشاهد الجميع اتحاد الأضداد، ووقوفهم في صورةٍ جماعية أذهلت الكثيرين، وحدتهم "الأهداف النبيلة" المتمثّلة في إسقاط هذه الحكومة ومن يقف وراءها مهما كان الثمن، وبعدما كانوا يشمئزون من حزب نبيل القروي، "قلب تونس"، ويتهمون حركة "النهضة" بتبييض الفساد عبر التحالف معه، رآهم الجميع ينسقون معه ويستشرفون مستقبل الأحداث، قبل أن يستفيقوا بسرعة ويستعيدوا بعض المسافة.
كل هذا ورجل القصر، قيس سعيّد، يشاهد ويراقب، يتفرج كيف يتكسر الجميع على تناقضاتهم وحساباتهم الصغيرة، وينتظر أن تؤول إليه الأحداث، تماماً كما حدث خلال الانتخابات الرئاسية، يبقى بعيداً عن ساحة المعركة وينأى بنفسه عن حرب الشوارع، ويتفرج كيف يسقط ريش من كل ضحية وتتكسر عظامٌ من كل محارب، ثم يلتفت إليه الجميع حكماً يوقف المعركة ويعلن الهدنة ويفصل بين المتنازعين.
غير أن هذه المرة ليست كسواها، لأنه سيكون على سعيّد أن يترجل من مقامه وينزل إلى الساحة بعيداً عن عالم المثل الذي يدعو إليه، وهؤلاء أنياب شرهة تفتك بكل من يعترضها ولا تقيم اعتباراً لأحد إذا وقف في طريقها. وسيبدأ الرئيس في اكتشاف الواقع كما هو، وسيلطخ يديه بتفاصيل السياسة وترتيبات المشاورات ومشاق الترضيات وقسمة كعكة ضئيلة على أفواهٍ لا حدّ لنهمها.
السياسة في تونس فرجة لذيذة، لولا أنها طالت كثيراً على المتفرجين الصبورين الذين ينتظرون فرجاً قريباً ويسراً بعد عسر، وهي بالفعل ساحرة، إلا أن السحر قد ينقلب على الساحر، وسينقلب عليه بالتأكيد، لأن التونسيين أثبتوا أنهم ناقدون محترفون أسقطوا أعتى المخرجين وأشطر الممثلين، ولكن كثيرين لا يعتبرون.