لا أحد يعرف على وجه الدقة متى سيأتي جثمان المطربة والكاتبة والتشكيلية والباحثة العراقية/ اللبنانية سحر طه ليُدفن في بيروت. لقد تجاوزت مرضها القاسي وفازت عليه، وسارت حياتها هادئة، لكنه عاد لينال منها. هو المرض اللعين الذي أخذ حياة المطربة سحر طه (1963 - 2018) نهار الجمعة في مستشفى هنري فورد في ولاية ميتشغان بالولايات المتحدة الأميركية.
وعند النظر إلى كافة الحيوات التي عاشتها المطربة صاحبة "ودعت بغداد"، سيجد المتابع رغبة صاحبتها في أن تعيش في أكثر من مكان وجنسية وفي أكثر من حياة، وفي العديد من الأعمال التي كانت تقوم بها في وقت واحد؛ فهي: الكاتبة الصحافية، والباحثة والمطربة وعازفة العود على أكثر من اتجاه شرقي، كما الذهاب به لتأدية أنماط غربية، على الرغم من دراستها العلوم الإدارية في جامعة بغداد ومنها حصلت على درجة الماجستير. لكنها حين أتت إلى بيروت (تزوّجت اللبناني سعيد طه وحصلت على الجنسية اللبنانية)، ذهبت لتعميق دراستها لآلة العود. لقد اعتبرته اللغة التي ستحكي بها لاحقاً عن كل الألم العراقي من جهة وإليه الألم الإنساني بصفته العامّة.
هكذا، لم تمانع سحر طه من القدوم إلى اليمن المجهول حيث يخشى كثيرون الذهاب إليه لأسباب عديدة، ليس من أقلّها صورة السلاح والقبائل الكثيرة المنتشرة في جغرافيته وعبر الكليشيهات المنشورة عنه في شاشات العالم.
رحلتها اليمنية
حين وقع الروائي والكاتب الألماني غونتر غراس (1927 - 2015) في حب اليمن، وهو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1999، كان لأهل الثقافة في "اليمن السعيد" العديد من الفرص وقد أُتيحت لهم للقاء العشرات من الشخصيات الألمانية والعربية أدباً وفناً وتشكيلاً، وقد كان صاحب "طبل الصفيح" يأتي بهم معه إلى اليمن في كل مرة يأتي فيها. محمود درويش وأدونيس وهدى بركات وصبحي حديدي وعباس بيضون وإليهم في مرّة المطربة اللبنانية جاهدة وهبة التي غنّت عام 2001 في صنعاء لأول مرة من ألبومها الأول "كتبتني" قبل صدوره الرسمي في بيروت عام 2007، وقد ضمّ أكثر من قصيدة لغونتر غراس من ترجمة العراقية أمل الجبوري؛ هي "أحذيتي الفارغة" و"لا تلتفت إلى الوراء". بعد ذلك ستأتي سحر طه إلى صنعاء بصحبة غونتر غراس نفسه في عام 2003 لتغني من قصائده، وتصدر ألبوماً حمل عنوان "جولة اليمن - أغانٍ على قصائد غونتر غراس"، وكانت من ألحان سحر طه نفسها، بمشاركة عود اليمني مراد العقربي وناي الفنّانة الألمانية كلوديا أوت. وحمل الألبوم عناوين قصائد غراس: "أصدقائي المتأرجحين" و"منذ سقوط الجدار"، و"اعتراف"، و"الحبيبة أغاثا"، و"خريف الكتب صورة مرآة"، و"كتبت"، و"لأجلك"، و"منذ أعوام" (ترجمة العراقية أمل الجبوري).
وبطبيعة الحال، لن تُنسى تلك الليلة الماطرة من العام ذاك؛ إذ حلّ غونتر غراس برفقة أُدباء عرب وألمان كُثر برفقة لوحاته التشكيلية التي زيّنت جدران واحد من المباني الأثرية في مدينة صنعاء القديمة، وفيها حضر عود وصوت سحر طه برفقة العقربي وكلوديا أوت. لقد كان واضحاً أن ذلك الروائي الألماني الفائز بجائزة نوبل في الأدب قد وقع في عشق المدن اليمنية القديمة المبنية من الطين، كما وقع في حب فقراء ناسها وقام بوضع مبلغ مادي كبير للحفاظ على بعض تلك المناطق الطينية.
لكن عشق سحر طه لتلك الأماكن كان - وهي القادرة على توفير مبالغ مالية داعمة لتلك المشاريع - يظهر دائماً في حجم الكلمات التي كتبتها وفي قدرة الصوت على قول ذلك العشق والتعبير عنه بتلك المهارة من جهة، وبتلك الأكاديمية التي درستها وكانت تقوم بتطبيقها على ذلك الحب، من جهة أخرى. كان هذا عِشقاً واضحاً، ظهر على نحو لاحق في تلك الكلمات والدراسات التي كانت تنشرها تباعاً في أكثر من جريدة عربية ولبنانية وكان حظ اليمن فيها كبيراً.