"إلى شعب يرنو للحياة والحرية، إلى شعب شبع الموت والمذلة" يهدي الدكتور عامر غراوي كتابه "السراب، إصلاح الدولة في سورية من 2000 إلى 2007" إلى السوريين. عمل غراوي منذ عام 2002 في مؤسسات دولية مختلفة كان لها دور هام في دعم مشروع إصلاح الدولة والمؤسسات الحكومية في سورية. فقد سعت العديد من الدول الغربية إلى دعم جهود بشار الأسد الذي خلف والده في رئاسة سورية، حيث جرى تسويقه في ذاك الوقت عالميا على أنه الرئيس الشاب والعصري الذي يسعى إلى قيادة عملية تحديث وعصرنة الدولة السورية.
فأرسلت عدة دول غربية فرقا من الخبراء والاستشاريين لمساندة جهود تحديث الدولة وإصلاح مؤسساتها، للتحول من اقتصاد الدولة المركزي، في سياق حكم شمولي عسكري، إلى اقتصاد السوق المفتوح، في إطار مجتمع تعددي، ويحترم الحريات العامة والفردية.
إلا أن هذه الجهود سرعان ما اصطدمت بالعوائق والممانعة من قبل عوامل مختلفة، منها طبيعة النظام ومجموعات الضغط الداخلية التي تعتمد على شبكات المصالح والفساد المتغلغلة في عمق الدولة السورية على مدار العقود الأربعة الأخيرة، كذلك الأحداث الإقليمية وانعكاساتها. عمل غراوي منذ عام 2002 في قلب هذه الدوائر، وشهد عن قرب لحظات ولادة الأمل في الإصلاح والتحول الديمقراطي الذي أشاعته أجواء ربيع دمشق، والتي لم تكن سوى سراب.
حلل الكاتب دورة الفعل وردة الفعل الناشئة عن الضغوطات الخارجية على النظام السياسي السوري، والضغوطات الداخلية الناجمة عن مجموعات الضغوط الداخلية والتي ضمت شرائح البيروقراطية السورية ورجال الأعمال الجدد، وكذلك الجيش والمخابرات. ثم خلص الكاتب إلى أن سياسات النظام ارتكزت على إدارة تضارب المصالح مع الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام، فكانت عملية الإصلاح في خدمة السياسة الخارجية، بدل أن تكون السياسة الخارجية في خدمة الإصلاح الداخلي وعملية تحديث الدولة. مع التأكيد أن القيادة السورية كانت المفصل الأهم في عملية الإصلاح لتمتعها بصلاحيات واسعة. إلا أنها استعملت عملية الإصلاح كإحدى الوسائل من أجل تحقيق تقارب أكبر مع الغرب، في حين أنها لم تقم بتنفيذ إلا بعض الإجراءات الإصلاحية الجزئية التي ساعدتها على تثبيت سلطاتها المطلقة وتدعيم استقرارها.
وبحسب الكاتب، فقد كانت خطة الإصلاح تقتضي البدء بالمجالات الإدارية والاقتصادية، حيث كان يسود الاعتقاد أن التقدم في هذين المجالين سيحرّض على التقدم في المجال السياسي في مرحلة لاحقة. وقد اصطلح على ذلك بتوسيع هوامش الخطوط الصفراء (الإصلاحات الإدارية والاقتصادية)، حتى تصل إلى الخطوط الحمراء (الإصلاحات السياسية). إلا أن النظام السوري عمد إلى انتقاء إجراءات إصلاحية محددة من ضمن حزم متكاملة مصممة للتنفيذ، كحزم إصلاحية للاقتصاد ولإدارة الدولة. الأمر الذي أدى إلى خلق مضاعفات سلبية وزيادة حدة الأزمة من حيث النتيجة. فبالرغم من أن هذه الإصلاحات الجزئية ساعدت على النهوض بنسب النمو، رغم انخفاض مساهمة صادرات النفط في الموازنة العامة خلال هذه الفترة، إلا أن عوائد هذا النمو كانت تخدم شرائح محدودة جدا ومقربة من النظام السياسي وليس المجتمع السوري ككل. هذه الانتقائية في تنفيذ الإصلاحات وغياب العقد الاجتماعي الجديد أدت إلى تسريع عملية انفجار المجتمع التي شهدتها سورية في 2011 على شكل ثورة شعبية شاملة.
يرى الكاتب أن أهم سبب لفشل عملية الإصلاح في سورية هو افتقادها إلى وجود أي ضغط شعبي أو ضغط من مجموعات مصالح داخلية تدفع باتجاه تحقيق الإصلاحات. ثم يخلص إلى أنه يمكن عزو فشل عملية الإصلاح إلى ثلاث جهات رئيسية، أولا: رئاسة الجمهورية، وذلك لتمسكها ببقاء سلطتها عن طريقة إدارة مصالحها الخاصة عبر شبكات المحسوبية القائمة، والتي تجذرت بشدة خلال العقود الأربعة الماضية، بدون مراعاة المصلحة الوطنية.
ثانيا: مجموعات الضغط الداخلية، والمكونة بشكل أساسي من مجموعات غير منتجة، إلا أنها تتحكم بنواتج الدولة ونواتج الاقتصاد الخاص، عبر امتيازات حصلت عليها خلال العقود الأربعة الأخيرة. وبالتالي فإن عملية الإصلاح ستجرد هذه المجموعات من امتيازاتها. بل على العكس من ذلك، فإن هذه المجموعات استخدمت برنامج الإصلاح لتمرير إجراءات إصلاحية جزئية تزيد من قدرتها على احتكار قطاعات اقتصادية محددة، وتزيد بالتالي من امتيازاتها.
ثالثا: السياسة الأميركية التي فرضت على النظام السوري عقوبات سياسية واقتصادية من أجل أن يغير سلوكه السياسي ودوره في المنطقة، إلا أنها لم تطالبه بإجراء أي إصلاح داخلي، ولم تقدم له أي نوع من المحفزات للشروع في عملية الإصلاح والتحديث. بل على العكس من ذلك، فإن الجهود التي مارستها الولايات المتحدة لمنع سورية من الانضمام لاتفاقية التجارة العالمية واتفاقية الشراكة المتوسطية تركت آثارا سلبية جدا على تطبيق حزم الإصلاحات التي كانت مرتبطة بدخول سورية في هذه الاتفاقيات.
ويخلص الكتاب إلى أن معضلة الإصلاح في الدول الديكتاتورية هي إقناع السلطة بالتنازل عن جزء من صلاحياتها لصالح المجتمع والقطاع الخاص، من أجل النهوض بقدرات المجتمع والنهوض بالاقتصاد. هذا التنازل سيؤدي إلى إضعاف السلطة السياسية الشمولية. إلا أن واقع الدول العربية اليوم أثبت أن البديل هو الثورات والخراب ودمار الأوطان، وبالتالي فإن عملية الإصلاح وما يرافقها من تنازلات سلطوية تبقى أقل كلفة من جميع البدائل الأخرى.
(كاتب سوري)
فأرسلت عدة دول غربية فرقا من الخبراء والاستشاريين لمساندة جهود تحديث الدولة وإصلاح مؤسساتها، للتحول من اقتصاد الدولة المركزي، في سياق حكم شمولي عسكري، إلى اقتصاد السوق المفتوح، في إطار مجتمع تعددي، ويحترم الحريات العامة والفردية.
إلا أن هذه الجهود سرعان ما اصطدمت بالعوائق والممانعة من قبل عوامل مختلفة، منها طبيعة النظام ومجموعات الضغط الداخلية التي تعتمد على شبكات المصالح والفساد المتغلغلة في عمق الدولة السورية على مدار العقود الأربعة الأخيرة، كذلك الأحداث الإقليمية وانعكاساتها. عمل غراوي منذ عام 2002 في قلب هذه الدوائر، وشهد عن قرب لحظات ولادة الأمل في الإصلاح والتحول الديمقراطي الذي أشاعته أجواء ربيع دمشق، والتي لم تكن سوى سراب.
حلل الكاتب دورة الفعل وردة الفعل الناشئة عن الضغوطات الخارجية على النظام السياسي السوري، والضغوطات الداخلية الناجمة عن مجموعات الضغوط الداخلية والتي ضمت شرائح البيروقراطية السورية ورجال الأعمال الجدد، وكذلك الجيش والمخابرات. ثم خلص الكاتب إلى أن سياسات النظام ارتكزت على إدارة تضارب المصالح مع الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام، فكانت عملية الإصلاح في خدمة السياسة الخارجية، بدل أن تكون السياسة الخارجية في خدمة الإصلاح الداخلي وعملية تحديث الدولة. مع التأكيد أن القيادة السورية كانت المفصل الأهم في عملية الإصلاح لتمتعها بصلاحيات واسعة. إلا أنها استعملت عملية الإصلاح كإحدى الوسائل من أجل تحقيق تقارب أكبر مع الغرب، في حين أنها لم تقم بتنفيذ إلا بعض الإجراءات الإصلاحية الجزئية التي ساعدتها على تثبيت سلطاتها المطلقة وتدعيم استقرارها.
وبحسب الكاتب، فقد كانت خطة الإصلاح تقتضي البدء بالمجالات الإدارية والاقتصادية، حيث كان يسود الاعتقاد أن التقدم في هذين المجالين سيحرّض على التقدم في المجال السياسي في مرحلة لاحقة. وقد اصطلح على ذلك بتوسيع هوامش الخطوط الصفراء (الإصلاحات الإدارية والاقتصادية)، حتى تصل إلى الخطوط الحمراء (الإصلاحات السياسية). إلا أن النظام السوري عمد إلى انتقاء إجراءات إصلاحية محددة من ضمن حزم متكاملة مصممة للتنفيذ، كحزم إصلاحية للاقتصاد ولإدارة الدولة. الأمر الذي أدى إلى خلق مضاعفات سلبية وزيادة حدة الأزمة من حيث النتيجة. فبالرغم من أن هذه الإصلاحات الجزئية ساعدت على النهوض بنسب النمو، رغم انخفاض مساهمة صادرات النفط في الموازنة العامة خلال هذه الفترة، إلا أن عوائد هذا النمو كانت تخدم شرائح محدودة جدا ومقربة من النظام السياسي وليس المجتمع السوري ككل. هذه الانتقائية في تنفيذ الإصلاحات وغياب العقد الاجتماعي الجديد أدت إلى تسريع عملية انفجار المجتمع التي شهدتها سورية في 2011 على شكل ثورة شعبية شاملة.
يرى الكاتب أن أهم سبب لفشل عملية الإصلاح في سورية هو افتقادها إلى وجود أي ضغط شعبي أو ضغط من مجموعات مصالح داخلية تدفع باتجاه تحقيق الإصلاحات. ثم يخلص إلى أنه يمكن عزو فشل عملية الإصلاح إلى ثلاث جهات رئيسية، أولا: رئاسة الجمهورية، وذلك لتمسكها ببقاء سلطتها عن طريقة إدارة مصالحها الخاصة عبر شبكات المحسوبية القائمة، والتي تجذرت بشدة خلال العقود الأربعة الماضية، بدون مراعاة المصلحة الوطنية.
ثانيا: مجموعات الضغط الداخلية، والمكونة بشكل أساسي من مجموعات غير منتجة، إلا أنها تتحكم بنواتج الدولة ونواتج الاقتصاد الخاص، عبر امتيازات حصلت عليها خلال العقود الأربعة الأخيرة. وبالتالي فإن عملية الإصلاح ستجرد هذه المجموعات من امتيازاتها. بل على العكس من ذلك، فإن هذه المجموعات استخدمت برنامج الإصلاح لتمرير إجراءات إصلاحية جزئية تزيد من قدرتها على احتكار قطاعات اقتصادية محددة، وتزيد بالتالي من امتيازاتها.
ثالثا: السياسة الأميركية التي فرضت على النظام السوري عقوبات سياسية واقتصادية من أجل أن يغير سلوكه السياسي ودوره في المنطقة، إلا أنها لم تطالبه بإجراء أي إصلاح داخلي، ولم تقدم له أي نوع من المحفزات للشروع في عملية الإصلاح والتحديث. بل على العكس من ذلك، فإن الجهود التي مارستها الولايات المتحدة لمنع سورية من الانضمام لاتفاقية التجارة العالمية واتفاقية الشراكة المتوسطية تركت آثارا سلبية جدا على تطبيق حزم الإصلاحات التي كانت مرتبطة بدخول سورية في هذه الاتفاقيات.
ويخلص الكتاب إلى أن معضلة الإصلاح في الدول الديكتاتورية هي إقناع السلطة بالتنازل عن جزء من صلاحياتها لصالح المجتمع والقطاع الخاص، من أجل النهوض بقدرات المجتمع والنهوض بالاقتصاد. هذا التنازل سيؤدي إلى إضعاف السلطة السياسية الشمولية. إلا أن واقع الدول العربية اليوم أثبت أن البديل هو الثورات والخراب ودمار الأوطان، وبالتالي فإن عملية الإصلاح وما يرافقها من تنازلات سلطوية تبقى أقل كلفة من جميع البدائل الأخرى.
(كاتب سوري)