13 يونيو 2020
سرّ الهجوم على عزمي بشارة
يتساءل البعض عن سرّ الهجمة التي يتعرض لها الدكتور عزمي بشارة، رئيس "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". تساؤل ليس في محله، خصوصاً عندما يصدر عن فئة تعمل أو تهتم بمجال الكتابة أو العمل الصحافي أو الإعلامي أو الفكري، أو مهتمة بالشأن العام على الأقل. منذ ثورات عام 2011 السبع الأخيرة، ركزت بعض الدوائر الأمنية والمخابراتية هجومها المنسق على الدكتور عزمي بشارة، وجندت لهجمتها بعض وسائل الإعلام والصحافيين، وأفردت لها مساحات شاسعة في تلك الوسائل. والحقيقة أن رصد تحرُّكات بشارة وتصريحاته ليس أمراً جديداً، وهناك مئات التصريحات للمؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية المتعلقة ببشارة المستمرة منذ ما قبل أكثر من عقدين. لكن شراسة الهجمة بدأت بعد العام 2006، وما تبع تلك القضية لاختيار بشارة لمنفاه. والسر أن الرجل غزير الإنتاج فكرياً، ومثقف متورط في قضايا الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وصاحب شخصية وخطاب مؤثرين على الرأي العام، وبالأخص جيل الشباب.
في 22 مارس/آذار من العام 2011، كانت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام السوري، تعنون افتتاحيتها بمقال "نصائح مسمومة"، يبدأ بـ"مناضل عربي شرب من بردى وركب ثلاث طائرات وسيارتين ليحظى بقبلة من يد السيد الرئيس". ومن ثم تتناول الصحيفة بشارة، كمقدم للسم في السياسة السورية. كان هذا في أيام الثورة السورية الأولى. لقد صدمهم موقف عزمي بشارة بسبب مصداقيته التي ساهموا في ترويجها عندما حاولوا الاستفادة منه ومن مصداقيته على مستوى الرأي العام العربي. وكانوا يقفون بانتظار أن يحظوا منه بتحية أو مقابلة صحافية. لتبدأ حفلة الردح في وسائل إعلام النظام وتصور أن قضية الشعب السوري لا علاقة لها بكل تاريخ الاستبداد، ولا بعمليات القتل التي بدأت تحصد أرواح السوريين آنذاك، بل في إطلالات بشارة الإعلامية ورأيه وانحيازه الأخلاقي والإنساني لجانب معاناة الشعب السوري، رغم تملق النظام لبشارة (وليس العكس، فهم تملقوه وهو لم يتملقهم).
لن نعيد سرد كم الوقاحة المزعومة التي ربطت دور بشارة وقطر في زعزعة استقرار نظام بشار الأسد. حتى في النقاشات التي كانت تدور بيننا وبين مجموعة من يحسب نفسه على طبقة الكتاب والروائيين والمثقفين، كان لهم نفس الرؤية المطروحة في إعلام النظام، ليكون جواب: "إذا كان بشارة بمقدوره زعزعة أركان نظام بهذا الشكل، بالتأكيد هذا لا يعيب الرجل بل يعيب هشاشة النظام التي اعتبرت أصلاً صوت وكتابات أطفال درعا جريمة تستوجب قتلهم واقتلاع أظافرهم، فما بالك باختلاف الرأي".
هذا حال معظم الطبقة "الثقافية والسياسية" المرتبطة بتلابيب النظام السوري. انتهى دورها ووظيفتها منذ أكثر من عقدين، وجدت في ما يجري انعكاساً لعجزها المفضوح. عجز اتخذ من ذرائع النظام ورواياته وفبركته بوصلة أبعدت ما تدعيه تلك الطبقة من حملها لأدمغة بين منكبيها. تعاد الرواية اليوم بإخراجات جديدة وحماسة أكبر في تجديد فتح جبهة الهجوم على بشارة من بوابة العلاقة مع قطر.
ببساطة شديدة، حتى لا يعاد تكرار المثبت في نقاط الاشتباك، بشارة ليس دولة ولا تنظيماً سياسياً أو إعلامياً. الرجل باحث مرجعي، ومفكر بارز، ومناضل إنسان قبل أي شيء آخر، يحمل كل ذلك في بوتقة مشاعر واحدة، له آراء ووجهات نظر في ما يجري، لأنه مثقف حقيقي منتم لشعبه وأمته وله فكر وقلب وأخلاق. من الطبيعي أن يكون منسجماً مع كل ذلك في ما يطرحه بما يخص الشارع العربي وسياساته. ولأن "خصومة" الأنظمة قائمة على معرفة بشارة لطبيعتها ودورها، تكون الهجمة بهذا القدر الذي تعرفه تلك الأنظمة والأجهزة عن تأثير بشارة الذي شكت المؤسسة الصهيونية "خطورته"، وتأثيره في جيل عربي كامل في الداخل الفلسطيني، وفي شباب الشارع العربي من خلال أطروحاته الفكرية والنقدية.
تعاد الهجمة على بشارة، ضمن سياق مضاد لتطلعات الشارع العربي التي يقودها بعض النظام العربي وأجهزته الأمنية، لمعرفتها ويقينها المشترك مع المؤسسة الصهيونية، أن تصفية بشارة سياسياً أو حتى جسدياً كما نادى أقطاب اليمين الصهيوني، يفتح الباب أمام عودة الاستقرار لتلك الأنظمة المهزوزة والمرتعبة. المشكلة أنّ مركز أبحاث أكاديمي ورصين أو وسيلة إعلامية مهنية تدب الرعب في قلوب تلك الأنظمة، وأبواق ونخب تلعلع لاعنة علاقة بشارة بالدوحة وبمركز الأبحاث، في الوقت الذي تخلو كل الساحة من تقدّم أي مدع نخبوي بمشروع مماثل يخدم العقل العربي والإنسان العربي بصورة مماثلة ومنافسة، لكن ليس على طريقة مشروع العتيبة وبن سلمان أو دحلان أو أزلام النظام السوري.