فهم المشروع الإيراني يحتاج إلى تراكم معرفي عميق يبتعد عن سياسية الانفعال والتوتر، ويتحلى بفلسفة التفاعل والتواصل؛ فإيران اليوم هي امتداد للميراث الإمبراطوري الفارسي القديم مُضافاً إليه نجاح الثورة الإسلامية بقيادة الخميني، والذي زاد الحلم الفارسي تماسكا عبر إدخال المعامل الإسلامي للفكرة القومية الفارسية، فأصبحت إيران تبحر في العالم اليوم بفضل التزواج بين الجناح القومي والجناح الإسلامي، وسأتناول اليوم نقاط قوة المشروع الإيراني التي نجح في تحقيقها على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة، برغم الحصار الدولي المفروض عليه، فإيران نجحت في بناء أربع أقدام إستراتيجية حضارية تستند عليها في تحركاتها الدولية والإقليمية وهي كالتالي:
القدم الأولى، إنتاج المعرفة: لقد تمكنت إيران من تحقيق قفزة نوعية في مجال نشر الأبحاث العلمية في السنوات الأخيرة، فقد احتلت المرتبة الأولى في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، والـ13 عالمياً، بنشرها 21714 مقالاً علمياً متقدمة لأول مرة على إسرائيل، كما أطلقت في 2 فبراير/شباط 2009 القمر الصناعي "أميد"، وهو أول قمر صناعي إيراني من صنع محلي، وقد جاء ذلك متزامناً مع الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية الإسلامية، والقمر مصنوع بشكل كامل في إيران، وهو من النوع الخفيف ووظيفته تتركز بالقيام باتصالات مع محطة أرضية لإجراء قياسات مدارية، وهو يقوم بخمس عشرة دورة حول مدار الكرة الأرضية خلال 24 ساعة، وتتم مراقبته من المحطة الأرضية مرتين وقد قام بـ700 دورة حول الأرض منذ إطلاقه.
القدم الثانية، الهوية الجامعة: يبلغ عدد سكان إيران قرابة 70 مليون نسمة نصفهم فقط من العرق الفارسي، والبقية من أعراق أخرى، فإيران من الدول ذات التعددية العرقية، وحسب المصادر الرسمية يشكل الفرس 51% من السكان ، في حين يشكل الأذريون 24% والجيلاك المازندارنيون 8% والأكراد 7% والعرب 3% واللور والبلوش والتركمان 2% لكل منهم، وبقية العرقيات 1% من عدد السكان، ويتميز المشهد القومي الإيراني بتداخل ما بين المذهبية والقومية، ذلك أن معظم الأقليات العرقية في إيران يقطنون المناطق الحدودية، فالعرب في الجنوب والجنوب الغربي، والبلوش في الجنوب والجنوب الشرقي، والتركمان في الشمال والشمال الشرقي، والأذريون في الشمال والشمال الغربي وأجزاء في الوسط، والأكراد في الغرب، وعلى الرغم من هذا التنوع السابق، نجحت إيران فى بناء هوية قومية جامعة متماسكة بدرجة كبيرة من خلال استخدام العامل المذهبي، وقد ترسخ هذا العامل بعد قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، وحسب الأرقام الرسمية فإن 89% من سكان إيران يدينون بالمذهب الشيعي، ويشكل أهل السنة 10% ويتوزع 1% بين الأرثوذكس الأرمن واليهود والزرادشتيين وغيرهم.
القدم الثالثة، نظم العمران: على مدار ثلاثين عاما من تاريخ إيران بعد الثورة 1979، حققت تقدماً مملوساً في بناء نظم عمران (اقتصادية واجتماعية وصحية وتنموية) فاعلة، وسنأخذ مثلا على ذلك بالتعرف إلى منجزات النظام الصحي الإيراني الذي حقق تقدماً كبيراً؛ فمجموع الإنفاق على الصحة يعادل 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2005، كما أن 73% من الإيرانيين لديهم تغطية صحية، ووفقا لمنظمة الصحة العالمية تأتي إيران في المرتبة 58 في مجال الرعاية الصحية عام 2000، ورقم 93 في أداء النظام الصحي في عام 2013، وكذلك حقق النظام السياسي نجاحاً في تجربة التداول السلمي، مقارنة مع المنطقة العربية، فمنصب الرئاسة في إيران تناوب عليه ستة رؤساء عبر انتخابات مباشرة من الشعب منذ عام 1979.
القدم الرابعة، نظم الدفاع: تفوقت إيران في بناء منظومة عسكرية دفاعية هائلة، فبعد حرب الخليج عام 1991 توصلت ايران إلى نتيجة مفادها بأنه نظرا للتفوق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها، فإن عليها بناء إستراتيجيتها العسكرية على أساس الحرب "اللاتناظرية" Asymmetric Warfare وذلك بتطوير وتعزيز قدرتها الصاروخية كماً ونوعاً. ووفقاً لهذه الإستراتيجية لم يعد سلاح الجو يمثل أولوية بالنسبة إلى إيران، لا سيما أنه عالي التكلفة وغير قادر على مقارعة القوة الجوية الغربية المتطورة. وقد تعلمت إيران من تجارب حرب العراق، ما يعني أنها ستتجنب الدخول في معارك مباشرة مفتوحة مع أميركا بالاعتماد على الآليات والمدرعات على غرار معارك الحرب العالمية الثانية في أي مجابهة عسكرية، لذلك شرعت إيران في برنامجها الصاروخي منذ عام 1987 وفي عام 1998 أعلنت إيران عن إنتاج الصاروخ "شهاب 3" الذي يبلغ مداه 1300 كلم، كما أظهرت إيران قدرتها على امتلاك صناعة صاروخية محلية، وليس مجرد صناعة مونتاج للصواريخ الخارجية. وبعد هذا الإنجاز وضعت إيران مهمة إنتاج صواريخ يبلغ مداها ما بين 2200 و 2500 كلم من أنواع "شهاب" الجديدة، كالصاروخ "سجيل" الأكثر تطورا على رأس جدول أعمال صناعتها الصاروخية، وعبر إستراتيجية إنتاج الصورايخ وغيرها من الوسائل الحربية أصبحت كلفة مهاجمة إيران عسكريا عالية الثمن.
يتضح مما سبق أن إيران اتخذت مسار التراكم الحاشد من أجل بناء قوتها الذاتية، بعيداً عن سياسة التورط في معارك جانبية تعوق تقدمها وتوقف تحقق برامجها المدنية والعسكرية، ومن خلال هذه السياسة -التدرج المدروس- أجبرت القوى العظمى على التحاور والتواصل معها باعتبارها طرفاً إقليمياً فاعلاً في المنطقة، لكن السؤال الأهم الذي سأتناول الإجابة عنه في مقال قادم هو: هل الأفكار المؤسسة للمشروع الإيراني قادرة على الإبحار بالمشروع نحو المستقبل أم أنها تعد نقطة ضعفه القاتلة؟؟؟