صعد سعيد الناجي إلى خشبة المسرح ممثلاً في بداية شبابه، قبل أن يأخذه الفن الرابع إلى دهاليز ما خلف الركح، لينشغل بالتأليف والإخراج ثم بالممارسة النقدية، فضلاً عن الإشراف على الدراسات المسرحية بجامعتي فاس والقنيطرة. وحتى بعيداً عن الخشبة، يظل المسرح همّه الأول، إذ إن الناجي هو الأمين العام لـ "الجمعية العربية لنقاد المسرح"، ومدير "مهرجان فاس للمسرح الجامعي" ورئيس "جمعية نقاد المسرح" في المغرب.
يحمل الناجي منذ ثلاثة عقود همّ الخشبة، في سعي دائب للمساهمة في إثراء النقاش المسرحي الذي يجد بأنه مجال ينفتح أمام أبِ الفنون لكي يدفع بعجلته ويواصل السير فوق أرض الفرجة التي أصبحت تتقاسمها معه، وتزاحمه فيها، أشكال إبداعية أخرى.
على المستوى المسرحي البحت، كتب الناجي وأخرج عدداً من المسرحيات، لعل أبرزها: "بائع الدموع" و"البخيل" و"البحر أمامكم"، كما قام بمسرحة "سرير الغريبة" من نص محمود درويش. كما ألّف أيضاً عدداً من الكتب البحثية التي انصبّت بشكل أساسي على قضايا هذا الفن. أعمال أهمها: "قلق المسرح العربي" و"البهلوان الأخير: أي مسرح لعالم اليوم؟" و"التجريب في المسرح" و"مسرح المغاربة" و"المسرح الملحمي والشرق"، وغيرها.
كانت نقطة الانطلاق في حديث الناجي لـ "العربي الجديد" من الحقل الأكاديمي. سألناه عما إذا كانت الجامعة تواكب تحوّلات المسرح العربي أم إنها مشغولة فقط بماضيه. عن ذلك يقول:
"أعتقد أن الدرس المسرحي الجامعي في انحسار، لقد توقف الدرس المسرحي الذي أسّسه حسن المنيعي في جامعة فاس، وأصبح مقتصراً على مسالك مؤقتة للماجستير في الغالب، وغالباً ما تواجه صعوبة إدماج الخرّيجين. فمادة المسرح حاضرة بالطريقة نفسها في شعب ومسالك أدبية، وهي غالباً لا تتجاوز في برامجها وموادها ما وصل إليه المسرح في منتصف القرن الفائت، بمعنى أن التدريب لا يمسّ تحوّلات الفرجة المسرحية عبر العالم. لهذا، لست مطمئناً للدرس المسرحي الجامعي في المغرب، وقد أصبح فيه خليط من المتدخلين، وعلينا أن نعيد النظر في حضور المسرح داخل الجامعة، وأن نفكر جدياً في تقديم نقد ذاتي حقيقي".
وبخصوص نظرته لراهن المسرح المغربي سواء في سياقه التاريخي وتحوّله من الداخل، أو قياساً مع التجارب العربية الأخرى، يكشف لنا الناجي بأن "المسرح المغربي عُرف دوماً باختياراته التجريبية، وهذا التجريب قد فتح للمسرح المغربي تاريخياً أبواب المسرح العالمي، ولكنه في الآن نفسه أبعده عن احتياجات المجتمع إلى الفرجة، بمعنى آخر لم نعرف كيف نوازن في تجربتنا بين المسرح التجريبي وبين مسرح الجمهور الواسع، وحفرت هوة عميقة بين المسرحين؛ ولهذا أنظر بنوع من الإشادة إلى بعض المحاولات لخلق مسرح جمهور واسع بلغة مسرحية متميزة كما وجدت في بعض تجارب "التوطين المسرحي" الذي اقترحته وزارة الثقافة مؤخراً".
أما بخصوص تقييم المسرح المغربي ومحاولة ضبط إحداثياته بين التجارب المسرحية العربية الأخرى، أكد صاحب مسرحية "حب" أن المقارنة ليست سهلة، فـ "لكل تجربة حوافها وتحوّلاتها، ولكني أهتم بقدوم تجارب جديدة لا بد أن تطرح تحدياً على المسرح المغربي، ففي وقت سابق كانت المقارنة مع المسرح في الشام أو في مصر، والآن هناك تجارب مهمة في الخليج العربي".
هذه البلدان (قطر والإمارات والبحرين وعُمان) تمتلك الآن -حسب الناجي- تجارب مهمة بعد سنوات من الاختبار والتجريب والتكوين، "وعليه فالمسرح المغربي مدعو إلى تعميق رؤاه سواء في مواصفات صناعة الفرجة، أو في التفاعل مع قضايا المجتمع وتحولاته.
وفي قراءة لحركية المسرح المغربي على المستوى الداخلي يرى الباحث أن هذا المسرح يعيش تطوّراً طبيعياً وفق التحوّلات السوسيوثقافية، ونتيجة السياسات الثقافية المتبعة منذ حوالي 15 سنة. لكنه يلاحظ أن صيغة "مسرح الهواة" توقفت، وانتقل انتماء المسرح المغربي إلى تدبير وزارة الثقافة، ودخلت المشهد الفني أفواج جديدة وشابة من الفنانين، بوعي جديد وبحساسية جديدة.
يضيف الناجي: "لكننا نحس أن حركة المسرح المغربي على الصعيد العام يشوبها نوع من "التعطّل الإبداعي"، فهناك نمطية رهيبة في المسرحيات المقدّمة رغم اختلاف مشارب صانعيها، وهناك أساليب متشابهة إلى غاية كبيرة، أصبح المسرح المغربي يفتقر فيها إلى العروض المبهرة التي تترك صدى كبيراً، اللهم إلا إذا كانت عروضاً تمس التابوهات والمحرمات الثقافية. وحتى تجربة الدعم المسرحي التي راهنّا عليها كثيراً لكي تدفع بحركة المسرح المغربي لم تنتج فرزاً حقيقياً، وبقيت الحركة المسرحية في ما يشبه نفس عطاءاتها منذ حوالي 20 سنة".
يستطرد الناجي: "هناك تجارب متفرّدة قليلة تتفتّح على لغات درامية وفرجوية ممتعة، ولكن تبقى قليلة للغاية مقارنة بما ينبغي أن تكون عليه حركة مسرحية مغربية هي من أقدم الحركات المسرحية في العالم العربي، وقريبة من تجارب المسرح الأوروبي المتميزة".
حاولنا أن نعرف منه أسباب هذا "التعطّل الإبداعي". يجدها الناجي كثيرة ومتداخلة؛ "أعتقد أن كل مسارح العالم تعاني ولو جزئياً من هذه الصعوبة، بسبب هجمة فرجات الشاشة ووسائط التواصل الجديدة التي أحدثت تحولات كبيرة في تعاطي الجمهور مع المسرح. ولكن المسرح المغربي يعاني من فقر رهيب في آليات الإنتاج المستقر للفرجة، رغم ارتفاع مبالغ الدعم المسرحي وتنوّعها. وهذا الفقر يجعل الفرق المسرحية في وضعية حرجة للغاية، فهي فرق مستقلة، لا تتوفر على مسارح قارة، ولا يستطيع المسرح أن يضمن حياة كريمة لفنانيها".
يضيف الناجي: "ومع تكاثر عدد الفرق المسرحية، وعدم اهتمام المجتمع بالمنتوج المسرحي، نلاحظ هجرة مريعة للفنانين نحو السينما والتلفزيون، وتراجع الاكتشافات الإبداعية في المسرح، وشيوع مسرحيات ذات طابع تنفيذي أكثر من أن تكون مسرحيات إبداعية".
هكذا، يبدو لنا المشهد سوداوياً بعض الشيء، لكن الناجي يقترح حلولاً ووسائل التي قد تسعف المسرح في العودة إلى حركيته ونشاطه، يقول: "علينا أن نوفر للفنان والفرق المسرحية ظروف إنتاج قارة بفتح مسارح وطنية وجهوية مهيكلة قانونياً ومالياً، لكي تكون هي أداة استقطاب جديد للجمهور وخلق سياسة مسرحية وثقافية جهوية جديدة، والجمع بين المسرح وبين تربية المجتمع على تلقيه. دون هذا، وعلى المدى المتوسط، سيبقى المسرح المغربي يراوح مكانه، وستبقى تجاريه بنفس المخيلة والأسلوب المدرسي، والاتجاه نحو الكوميديا كحل أخير عند عدد كبير من الفرق".