فبعد يوم واحد من انتشار نقاط الحوثيين داخل مدينة الحديدة، وفي محيطها ونهب عناصر الجماعة لسلاح أحد المعسكرات شرق المدينة، توجه الحوثيون الى محافظة أخرى، إذ نصبوا عدداً من نقاط التفتيش لمسلحيهم في مركز محافظة ذمار، جنوبي صنعاء، في ظل تأكيدات عن قيام محافظ حجة بالتواصل معهم لتسليم المحافظة الواقعة شمالي غرب البلاد من دون مقاومة.
استدعى ذلك، حالة من الذهول العام وسط قرائن متواترة عن توجيهات من قيادة الدولة وقيادة الجيش بالسماح لعناصر الجماعة بالانتشار المسلح في هذه المدن وعدم اعتراض طريقهم، إلى جانب الأنباء المتكررة عن تنسيق بينهم وبين حزب الرئيس السابق علي عبد الله صالح في معظم تحركاتهم الأخيرة.
ذمار محطة خطرة
كان متوقعاً منذ سقوط عمران، أن يصل الحوثيون إلى ذمار حتى من دون العبور على صنعاء الواقعة بين المدينتين، وذلك لكونها إحدى الحواضن التقليدية للزيدية، ويقع مركزها على بعد نحو 130 كيلومتراً من العاصمة، حيث تعتبر بوابتها الجنوبية، كون الطريق الواصل إلى صنعاء من سبع محافظات، يمرّ بالضرورة من ذمار، وهي محافظات عدن، تعز، إب، أبين، البيضاء، لحج، والضالع. علماً أن أبناء هذه المحافظات السبع يمثلون أكثر من نصف السكان.
جغرافياً، تُعدّ ذمار إحدى المحافظات التي تتوسّط البلاد، وهي أول محافظات شمال الشمال، وتنقسم بين زيدية وشافعية، وتضم مركزاً للسلفيين في مدينة معبر، يُديره الشيخ محمد الإمام الذي أبرم معاهدة سلام مع جماعة الحوثيين. ويعدّ مركز معبر فرعاً من مركز دماج السلفي، الذي أجلاه الحوثيون من صعدة بوساطة رئاسية بعد شهور من المواجهات.
ويدير المحافظة اللواء يحيى العمري، وهو قيادي في حزب صالح، ووكيل سابق لوزارة الداخلية، وكان يشغل منصب محافظ صعدة أثناء اندلاع شرارة المواجهات الأولى بين القوات الحكومية والمسلحين الحوثيين في يونيو/ حزيران 2004.
وفي مدينة ذمار، مركز المحافظة، نصب الحوثيون، يوم الثلاثاء، عدداً من نقاط التفتيش ونشروا الأطقم المسلحة في بعض شوارعها، من دون أن يسجل وقوع أي مصادمات مع القوات الحكومية.
وعلى رغم تمتعهم بنسبة من الأنصار والمؤيدين مذهبياً أو سياسياً في المدينة، لكن سيطرة الحوثيين ليست سوى ثمرة لمزاج الحالة السياسية في اليمن (تواطؤ السلطات وتسهيلات صالح)، أكثر من كونها تعبيراً عن قوة الجماعة، ما يعني أنها سيطرة مؤقتة معرّضة للانتهاء في أية لحظة. فذمار محافظة ينتمي إليها الكثير من أفراد قوات الجيش والأمن، ويتمتع فيها حزب المؤتمر، الذي يرأسه صالح، بنفوذ يفوق ذلك الذي تمتلكه الجماعة، فضلاً عن أن ذمار محاطة بمحافظات لا تتمتع فيها جماعة الحوثي بحضور مؤثر.
من جهة أخرى، فإن وصول الحوثيين إلى ذمار، يعني اقترابهم من أحد أخطر أوكار تنظيم "القاعدة". شرق المحافظة، تقع محافظة البيضاء، إحدى أبرز مناطق اليمن سخونة، حيث ينتشر في بعض أجزائها مسلحو "القاعدة"، وفيها أعلنت قبائل "مذحج"، في اجتماع ضم عدداً من وجهائها، "الاستنفار" لمواجهة توسّع الحوثيين واعتبارهم خطراً على المحافظة.
وبحسب أحد المراقبين، فإن "البيضاء" يمكن أن تكون "كتيبة المقدمة" التي يصطدم بها الحوثيون، ما يمكن أن يمهّد لموجة عكسية ترتد عليهم. وكان العديد من عناصر الجماعة في البيضاء قد تعرضوا لهجمات تنظيم القاعدة خلال الأسابيع والأشهر الماضية.
عسكرياً، تمثّل ذمار مركزاً لقيادة المنطقة العسكرية السابعة، التي تضم إلى جانب ذمار محافظتي البيضاء وإب. وحسب بعض المعلومات، فإنها تضم معسكراً نُقلت إليه صواريخ استراتيجية من صنعاء، وسيطرة الحوثيين التامة على ذمار، تشكل لهم أهمية استراتيجية وعسكرية وبوابة تقودهم إلى محاولة السيطرة على باقي المحافظات في جنوب الشمال ذات الأغلبية السنية.
حجة... هدف قادم
تعدّ محافظة حجة، آخر محافظات شمال غرب صنعاء، التي لم تسقط رسمياً في أيدي الحوثيين، لكنها تبدو لقمة سهلة بسبب وقوعها بين محافظات تخضع لسيطرة الجماعة وكذلك بسبب ما يُقال عن تواطؤ قيادة المحافظة مع الحوثيين.
وتحدّ المدينة من الشرق محافظة عمران، ومن الشمال صعدة والسعودية، ومن الجنوب الحديدة والمحويت، وتنقسم عملياً إلى مناطق جبلية، أهمها مدينة حجة مركز المحافظة، ومناطق ساحلية أهم مدنها "عبس"، وكذلك "حرض"، حيث المنفذ الحدودي الأهم مع السعودية، بالاضافة إلى احتوائها على ميناء ميدي على البحر الأحمر. ومثلما تُعتبر المناطق الساحلية في حجة، ذات أغلبية سنية، تُعدّ المناطق الجبلية ذات أغلبية زيدية.
ويتبع حجة عدد من الجزر البحرية اليمنية المهمة، منها جزيرة كمران. وتزيد مساحة المحافظة عن ثمانية آلاف كيلومتر، تتوزّع إدارياً على 31 مديرية، ويربو عدد سكانها عن مليون ونصف المليون نسمة.
وكانت حجة، مركز المحافظة، المحصنة بشكل طبيعي بسبب تضاريسها الوعرة، حديقة خلفية للأئمة "المتوكليين"، الذين حكموا اليمن لعقود قبل أن تتم الإطاحة بهم في ثورة سبتمبر/ أيلول 1962.
واشتهرت المحافظة، إبان حكم الإمامة، بسجن "نافع" الرهيب الذي كان المعتقل الأبرز للثوار ضد الإمامة، بالقرب منه جرى إعدام العشرات من الثوار منذ ثورة 1948 وحتى إسقاط نظام الإمامة في عام 1962. ويُعدّ الحوثيون، في نظر العديد من معارضيهم، امتداداً فكرياً وسياسياً وعسكرياً له، ما يعني أن حجة تتوفر فيها بيئة حاضنة للحوثيين إلى حد ما.
وسبق لمحافظة حجة أن شهدت مواجهات متقطعة خلال عامي 2011 و2012 بين الحوثيين من جهة وقبائل من المحافظة من جهةٍ ثانية، في مديرتي "كُشر" و"مستبأ". وقد خلّف الحوثيون في "كشر" ألغاماً أوقعت العشرات من الضحايا، وكان من أسباب تراجعهم عن الاستيلاء على محافظة حجة بالقوة بعد محاولة التوسّع فيها وحدة الموقف بين أبناء المحافظة. يومها، وقف الإصلاحيون والمؤتمريون والاشتراكيون والناصريون في موقفٍ موحّد ضد الحوثيين، كمواطنين يدافعون عن مناطقهم لا كأطراف سياسية. وهي الميزة التي افتقدتها محافظة عمران، شرقي حجة، علماً أن أجزاء واسعة من عمران كانت تتبع إدارياً لمحافظة حجة، قبل أن يجري فصلها كمحافظة مستقلة بقرار جمهوري في عام 1998. وضُمت إليها مناطق أخرى من صنعاء والجوف وصعدة.
وتتمتع جماعة أنصار الله بوجود قوي في بعض مديريات شمال حجة، كمديرية "الشرفين" القريبة من مديرية حيدان في صعدة، والتي انطلق منها مدّ الجماعة.
ويؤكد مصدر أمني رفيع، لـ"العربي الجديد"، طلب عدم ذكر اسمه، أن "محافظ حجة، اللواء علي بن علي القيسي، وعد الحوثيين الأيام الماضية بتسليمهم المحافظة تسليماً كاملاً".
وكان المحافظ عُيّن في العام 2012. واللواء القيسي هو أحد المتهمين بالتساهل مع الحوثيين، شارك في لجان وساطة بين الحكومة والحوثي أثناء مواجهات الطرفين، وبرز أخيراً على رأس وفد قبلي التقى الرئيس عبد ربه منصور هادي أثناء حصار الحوثيين للعاصمة صنعاء بسبب أزمة "جرعة الوقود"، التي انتهت بسقوط العاصمة. وقدم الوفد حينها، مبادرة لإنهاء التوتر بين الجماعة والسلطة يتم بموجبها إعطاء الوزارات السيادية للحوثيين.
ويرى محللون أنه كان من الطبيعي أن يسعى الحوثيون للسيطرة على حجة بعدما استولوا على ما حولها، لكن تحركاتهم في حجة، حيث المنفذ الحدودي الأهم، يُمكن أن تزيد من حساسية الوضع مع الطرف السعودي، الذي يرى في الحوثيين ذراعاً موالياً لإيران. وبسيطرة الجماعة على الشريط الساحلي للمحافظة، إلى جانب الشريط الساحلي لمحافظة الحديدة، يصبح ثلثا المناطق المطلة على البحر الأحمر في قبضة الحوثيين.
المحويت وريم
وإضافة إلى ما سبق، فإنه بسيطرة الحوثيين على محافظات صعدة، عمران، صنعاء، الحديدة، ذمار، وحجة، تصبح محافظتا المحويت وريمة، الصغيرتان في المساحة نسبياً، في حكم "الساقطة"، وذلك لموقعهما المتوسط بين تلك المحافظات. استناداَ إلى ذلك، يكون الحوثيون قد سيطروا على ثمانٍ من محافظات الشمال، الأربع عشرة. وبحسب التوزيع الفدرالي للأقاليم الذي أقرّه مؤتمر الحوار الوطني قبل أشهر، فإن سيطرة الحوثيين تشمل إقليمين من أربعة أقاليم في الشمال، وهما آزال وتهامة، ما يعزز الهواجس حول محاولة تسليم "شمال" اليمن للحوثيين وإحلال قوته بدلاً من القوات النظامية.
وقد علّق وزير الأوقاف السابق، حمود الهتار، على التطورات في تصريح على الانترنت، بالقول: "ستظل القوات المسلحة والأمن محايدة حتى تستكمل العصابات المسلحة نهب ما بحوزتها من أسلحة وعتاد وتخرج كافة المناطق عن سيطرة الدولة ويرحل وزيرا الدفاع والداخلية ورئيس هيئة الأركان مع آخر جندي على قارب صيد من المخا إلى جيبوتي".
إب ... اللواء الأخضر
محافظة إب، كبرى المدن من حيث الكثافة السكانية، حيث يصل عدد سكانها إلى أربعة ملايين مواطن، ومساحتها 5552 كيلومتر، سقطت بأيدي الحوثيين من دون إطلاق رصاصة واحدة، إذ وصلت أطقم الحوثي واستقبلها المحافظ يحيى الإرياني، وأقامت نقطة تفتيش على مدخلها وتوجهت بعض الأطقم إلى وسط المدينة.
تقع إب جنوب محافظة ذمار وشمال محافظة تعز وشرق الحديدة وغرب الضالع، وإليها ينتمي العديد من العسكريين والأمنيين وتنتشر فيها التيارات السلفية بقوة، وتعتبر من محافظات "العمق السني"، وهي ضمن المنطقة العسكرية السابعة، يوجد فيها لواء عسكري على الأقل بالإضافة إلى القوات الأمنية. وجود الحوثي في إب، المعروفة بـ"اللواء الأخضر"، يبدو الأكثر إثارة من كل ما سبق، إذ إن هذه السيطرة أقرب لكونها "مسرحية". فالحوثي، عملياً، وقع في وسط أغلبية لا يستطيع البقاء فيها بالقوة، غير أن حزب المؤتمر الذي يرأسه صالح، يبدو المسؤول الأول عن هذا التوسّع ويتواطأ مع الحوثيين في التوسّع في محافظات لا يستطيعون البقاء فيها، ويمكن أن يتحوّل هذا التوسّع إلى فخّ إذا ما قرر حزب صالح إخراجهم.
سيف ذو حدين
وفي واقع الأمر، يبدو أن السبب الأبرز في التساقط السلِس للمدن اليمنية في أيدي جماعة الحوثيين ليس ضعف شوكة الجيش والأمن، بل رغبة من مركز القرار في الدولة الذي يبدو "متواطئاً" مع الجماعة، إلى حد ما، الأمر الذي من الممكن أن تتغيّر معه الصورة وتنقلب الموازين في أية لحظة.
من هنا، فإن هذا التساقط "السهل" للمدن، مثلما يُقلق عامة اليمنيين، فإنه بات يقلق الحوثيين أنفسهم لأنه سيف ذو حدين: فهو إما وسيلة لإكمال سيطرتهم على الشمال أو وسيلة لاستنزافهم وتشتيتهم وإضعافهم.
ثلاث مدن يمنية تسلّم مفاتيحها لمجموعات الحوثيين المسلحة في ثلاثة أيام. واقع يثير الكثير من علامات الاستفهام من المتابعين من داخل اليمن وخارجه، وبسببه تتعدّد التفسيرات التي يتجنّب معظمها الحديث عن فارق القوة بين الجماعة والدولة، كمنطلق لتفسير الأحداث، لذا تذهب معظم التفسيرات لتصبّ في الناحية السياسية وليس العسكرية. إذ يرى البعض أن الرئيس اليمني يسلّم الشمال للحوثيين كجارٍ مستقبلي غير حريص على الوحدة، ويقوم بتحضير نفسه للانفصال في الجنوب. ويستدلّ أصحاب هذا الرأي بقيام السلطات بنقل جزء لا بأس به من الأسلحة والمعسكرات إلى الجنوب، فضلاً عن قرائن أخرى، كانتقال بعض رجال هادي من صنعاء الى عدن للمشاركة في فعاليات تطالب بالانفصال في ذكرى ثورة 14 أكتوبر.
إلى ذلك، يرى آخرون أن الرئيس اليمني السابق يُريد إسقاط هادي بالحوثيين، وينتقم بهم من خصومه، ويستعدّ للانقلاب عليهم لاحقاً. ويذهب فريق ثالث إلى أن الأمر برمته مخطط خارجي يكرر سيناريو التنسيق الاميركي ـ الايراني في العراق، بهدف تدمير دولة اليمن وإغراقه في مستنقع الطائفية، وآخرون يجدون أن الحادث في اليمن هو حاصل جمع لكل ما سبق.