06 نوفمبر 2024
سلامة كيلة.. حيوات متعدّدة
لا يمكن الكتابة عن المفكر الفلسطيني سلامة كيلة (1955 - 2018) من دون التورّط بمشاعر الإجلال لكل ما جسّده طوال حياته، بانحيازه لكل ما هو إنساني وعادل، وعمق تحليلاته التفكيكية للظواهر الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية، فمتتبع حياة سلامة كيلة تحضره سير المثقفين الإنسانيين الملتزمين تجاه قضايا مجتمعاتهم، وستجد في انكبابه الدؤوب على مشروعه الفكري، سيرة مفكّر وحيد، يلاحق حلمه البعيد في إعادة إصلاح مسار العالم، منتصراً في أُطروحاته للفقراء والبسطاء والمقهورين.
عاش سلامة كيلة كبطل من زمن مضى، ومفكّرا إنسانيا لا يتكرّر، شرَّح في كتاباته قضايانا الجوهرية التي شكلت وعينا الجمعي، من طبقاتنا الاجتماعية إلى الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وتغول الإمبريالية العالمية التي تمتص خيرات الشعوب. عاش عربيا حتى الصميم، ومات فلسطينيا، مكثفاً، في معاناته، حياة المنافي القسرية التي يجتازها الفلسطيني من الميلاد إلى الموت، لتبدو سيرة ثلاثة وستين عاماً في هذا العالم التي تنقل فيها من بلد إلى آخر، منفياً ومطارداً، تجسيدا للتغريبة الفلسطينية؛ لكن سلامة كيلة، وإن عانى كثيراً في حياته، ظل
متموضعاً على الضد من كل ما هو سلطوي واستبدادي وشمولي، ودفع، بوصفه مثقفا ملتزما بمواقفه المبدئية التي لا تقبل المساومة، ضريبة باهظة، لتغدو حياته مثالاً لتطابق حياة المثقف الموضوعي الملتزم بقناعاته الفكرية مع واقعه المعيشي البسيط من دون ادّعاءات نخبوية.
ربما من الصعب اختزال حياة ثرية وحيوية كحياة الماركسي الفلسطيني سلامة كيلة، إذ لا يمكنك حصر وهج الدفق المحموم لمفكّر استثنائي، ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته؛ على الرغم من مرضه، مهموماً، في كتاباته وتحليلاته، بمواجهة الظلم ومقولاته، مفكّكاً بنيته العميقه، منخرطاً في الوقت نفسه باليومي، مواصلاً مشروعه الفكري، ليغدو سلامة كيلة مشروعاً بحد ذاته، فإضافة إلى انحيازه لثورات الربيع العربي، تحضر فلسطين أرضاً وتاريخاً، بمآلاتها ومساراتها وتحولاتها، همّا وجوديا وسياسيا في كتاباته ومعايشاته اليومية، كما تبرز سورية قضية وتراجيديا عربية، وموطنا ثانيا في كتاباته وتحليلاته السياسية، فيما تنصبّ اشتغالاته الفكرية على مراكمة أدواته الفكرية، عبر إعادة تجديد ماركسيةٍ عربيةٍ، تتجاوز جمود الماركسية الكلاسيكية، ناقداً، في الوقت نفسه، اليسار العربي في سياق تموضعاته السياسية وأطره الحزبية، ليختطّ، بنتاجه الفكري وحياته الملهمة، طريقاً خاصاً به، صاحب مشروع تأصيلي، جعله ذلك، مع علاقته النِدّية المميزة بجيل من اليساريين العرب الشباب، قامةً فكريةً فريدةً قل مثيلها في هذا العصر.
خلافاً لمعظم المفكرين العرب الذين واكبوا الإحتجاجات الشعبية في بلدان ثورات الربيع العربي، امتازت حفريات سلامة كيلة بنقد تفكيكي لبنية الثورات والقوى المحلية الدافعة لها، إذ لم تكن ثورات الربيع العربي معطىً جاهزاً في تحليلاته، وإنما كانت، في المحصلة، نتاج تمرّدات طبقات المجتمع المسحوقة، عبر عقود تاريخية طويلة من القهر الاقتصادي. ووفقاً له، لم تكن ثورات الربيع في حراكها اليومي والتغيرات المتبدلة في مساراتها تفضي إلى نهاياتها، وإنما ستظلّ مستمرة باستمرار تفاعلات قواها الديناميكية. وفي هذا السياق، تمثل كتابات سلامة كيلة مرجعاً موضوعياً محايداً وشاملاً في فهم الثورة السورية وتحوّلاتها، حتى في حالة الحرب الأهلية المؤقلمة، فعلى الرغم من انخراطه الميداني في الثورة ضد نظام بشار الأسد وأساليبه القمعية، كونه أحد ضحاياه، فإن كيلة، وبمواكبته الثورة السورية، تناول في قراءاته المبكرة لهذه الثورة تحليلاً دقيقاً للمسار الخطر الذي تتجه إليه، بفعل قوى النظام القمعي، والقوى الإقليمية والدولية المتدخلة، وكذلك قصور وعي القوى المحلية الحاملة للثورة السورية، ما يمكن اعتباره نبوءة مبكرة تجاهلتها قوى الثورة السورية.
صدورا عن صفته مفكرا ماركسيا، أمل سلامة كيلة من طروحاته الفكرية في النقد التاريخي لليسار العربي أن تسهم في تقييم تجربة اليسار العربي، ففي حين جرّ عليه ذلك الخصومات والتحريض من حزبيين متكلسين، إلا أن سلامة كيلة، كعادته، لم ترهبه تلك الدعوات، ففي
عبارته "لندفن موتانا"، وصف واقع الأحزاب اليسارية العربية، وكان توصيفه وفق قراءة عميقة في البنية التنظيمية لأحزاب اليسار العربي، وأطرها الحزبية الجامدة، بحيث أن رفضها إصلاح بنيتها التنظيمية أدّى إلى اغترابها عن قاعدتها الشعبية، وكذلك انكفائها التاريخي، وتموضعها على الضد من القيم التي دافعت عنها، فمن قوى اليسار العربي التي شاركت في ثورات الربيع العربي، والتي أسهمت في أدواتها، وممارساتها، وخطابها الديماغوجي، بتصعيد قوى الإسلام السياسي، بحيث أصبحت هذه القوى بديلاً عن اليسار العربي، ونادت بالقيم التي دافع عنها اليسار طوال تاريخه، إلى أحزاب اليسار الأخرى التي تموضعت مع الأنظمة العربية القمعية الاستبدادية، تحت لافتة شعاراتٍ مخادعةٍ كالممانعة، كاشفاً عن انتهازية تاريخية، وعن انحيازها للشمولية والاستبداد.
من فلسطين، وفق حدودها التاريخية الكبرى، ظل سلامة كيلة، طوال حياته، مناضلاً لا يساوم في قضية شعبه، منخرطاً في المقاومة الفلسطينية، ثم منكبّاً في كتاباته الفكرية والسياسية على تأصيل عدالة القضية الفلسطينية، وحق شعبها في الحياة في أرضه، مواكباً تحوّلات المسار السياسي للقضية الفلسطينية، من اتفاق أوسلو حتى صفقة القرن، منحازا في مواقفه لانتفاضات الفلسطينيين، مشرّحاً، في الوقت نفسه، القوى السياسية الفلسطينية البعيدة عن تمثيل شعبها. كان سلامة كيلة، بوعيه الحاد، مثقفا ماركسيا فلسطينيا، يدرك ارتباط المسار العربي بالفلسطيني، وأن إحياء المجتمعات العربية يبدأ من إزاحة أنظمتها الاستبدادية التي هي جزء من نكبة فلسطين، وشتات أبنائها في مخيمات اللاجئين والمنافي، وأن تحرير الشعوب العربية ونجاح ثوراتها خطوة أولى في طريق تحرير فلسطين.
دُفن سلامة كيلة في عمّان، وليس بحسب وصيته في بير زيت في فلسطين، وإنما بحكم الواقع التراجيدي الفلسطيني. أتخيله الآن، في قبره، ينظر بأسىً إلى الضفة الأخرى من وطنه، متابعاً في رأسه نقاشا مستفيضاً عن مأساتنا التي تمتزج وتختلط وتتداخل بلا فكاك. .. سلاماً لروحك العالية، وفكرك المستنير، يا سلامة كيلة.. يا ضميرنا وضوء اليسار.
عاش سلامة كيلة كبطل من زمن مضى، ومفكّرا إنسانيا لا يتكرّر، شرَّح في كتاباته قضايانا الجوهرية التي شكلت وعينا الجمعي، من طبقاتنا الاجتماعية إلى الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وتغول الإمبريالية العالمية التي تمتص خيرات الشعوب. عاش عربيا حتى الصميم، ومات فلسطينيا، مكثفاً، في معاناته، حياة المنافي القسرية التي يجتازها الفلسطيني من الميلاد إلى الموت، لتبدو سيرة ثلاثة وستين عاماً في هذا العالم التي تنقل فيها من بلد إلى آخر، منفياً ومطارداً، تجسيدا للتغريبة الفلسطينية؛ لكن سلامة كيلة، وإن عانى كثيراً في حياته، ظل
ربما من الصعب اختزال حياة ثرية وحيوية كحياة الماركسي الفلسطيني سلامة كيلة، إذ لا يمكنك حصر وهج الدفق المحموم لمفكّر استثنائي، ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته؛ على الرغم من مرضه، مهموماً، في كتاباته وتحليلاته، بمواجهة الظلم ومقولاته، مفكّكاً بنيته العميقه، منخرطاً في الوقت نفسه باليومي، مواصلاً مشروعه الفكري، ليغدو سلامة كيلة مشروعاً بحد ذاته، فإضافة إلى انحيازه لثورات الربيع العربي، تحضر فلسطين أرضاً وتاريخاً، بمآلاتها ومساراتها وتحولاتها، همّا وجوديا وسياسيا في كتاباته ومعايشاته اليومية، كما تبرز سورية قضية وتراجيديا عربية، وموطنا ثانيا في كتاباته وتحليلاته السياسية، فيما تنصبّ اشتغالاته الفكرية على مراكمة أدواته الفكرية، عبر إعادة تجديد ماركسيةٍ عربيةٍ، تتجاوز جمود الماركسية الكلاسيكية، ناقداً، في الوقت نفسه، اليسار العربي في سياق تموضعاته السياسية وأطره الحزبية، ليختطّ، بنتاجه الفكري وحياته الملهمة، طريقاً خاصاً به، صاحب مشروع تأصيلي، جعله ذلك، مع علاقته النِدّية المميزة بجيل من اليساريين العرب الشباب، قامةً فكريةً فريدةً قل مثيلها في هذا العصر.
خلافاً لمعظم المفكرين العرب الذين واكبوا الإحتجاجات الشعبية في بلدان ثورات الربيع العربي، امتازت حفريات سلامة كيلة بنقد تفكيكي لبنية الثورات والقوى المحلية الدافعة لها، إذ لم تكن ثورات الربيع العربي معطىً جاهزاً في تحليلاته، وإنما كانت، في المحصلة، نتاج تمرّدات طبقات المجتمع المسحوقة، عبر عقود تاريخية طويلة من القهر الاقتصادي. ووفقاً له، لم تكن ثورات الربيع في حراكها اليومي والتغيرات المتبدلة في مساراتها تفضي إلى نهاياتها، وإنما ستظلّ مستمرة باستمرار تفاعلات قواها الديناميكية. وفي هذا السياق، تمثل كتابات سلامة كيلة مرجعاً موضوعياً محايداً وشاملاً في فهم الثورة السورية وتحوّلاتها، حتى في حالة الحرب الأهلية المؤقلمة، فعلى الرغم من انخراطه الميداني في الثورة ضد نظام بشار الأسد وأساليبه القمعية، كونه أحد ضحاياه، فإن كيلة، وبمواكبته الثورة السورية، تناول في قراءاته المبكرة لهذه الثورة تحليلاً دقيقاً للمسار الخطر الذي تتجه إليه، بفعل قوى النظام القمعي، والقوى الإقليمية والدولية المتدخلة، وكذلك قصور وعي القوى المحلية الحاملة للثورة السورية، ما يمكن اعتباره نبوءة مبكرة تجاهلتها قوى الثورة السورية.
صدورا عن صفته مفكرا ماركسيا، أمل سلامة كيلة من طروحاته الفكرية في النقد التاريخي لليسار العربي أن تسهم في تقييم تجربة اليسار العربي، ففي حين جرّ عليه ذلك الخصومات والتحريض من حزبيين متكلسين، إلا أن سلامة كيلة، كعادته، لم ترهبه تلك الدعوات، ففي
من فلسطين، وفق حدودها التاريخية الكبرى، ظل سلامة كيلة، طوال حياته، مناضلاً لا يساوم في قضية شعبه، منخرطاً في المقاومة الفلسطينية، ثم منكبّاً في كتاباته الفكرية والسياسية على تأصيل عدالة القضية الفلسطينية، وحق شعبها في الحياة في أرضه، مواكباً تحوّلات المسار السياسي للقضية الفلسطينية، من اتفاق أوسلو حتى صفقة القرن، منحازا في مواقفه لانتفاضات الفلسطينيين، مشرّحاً، في الوقت نفسه، القوى السياسية الفلسطينية البعيدة عن تمثيل شعبها. كان سلامة كيلة، بوعيه الحاد، مثقفا ماركسيا فلسطينيا، يدرك ارتباط المسار العربي بالفلسطيني، وأن إحياء المجتمعات العربية يبدأ من إزاحة أنظمتها الاستبدادية التي هي جزء من نكبة فلسطين، وشتات أبنائها في مخيمات اللاجئين والمنافي، وأن تحرير الشعوب العربية ونجاح ثوراتها خطوة أولى في طريق تحرير فلسطين.
دُفن سلامة كيلة في عمّان، وليس بحسب وصيته في بير زيت في فلسطين، وإنما بحكم الواقع التراجيدي الفلسطيني. أتخيله الآن، في قبره، ينظر بأسىً إلى الضفة الأخرى من وطنه، متابعاً في رأسه نقاشا مستفيضاً عن مأساتنا التي تمتزج وتختلط وتتداخل بلا فكاك. .. سلاماً لروحك العالية، وفكرك المستنير، يا سلامة كيلة.. يا ضميرنا وضوء اليسار.