لم يوقف اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة في جنوب السودان والمتمردين، العمليات العسكرية بين الطرفين، مع تبادلهما الاتهامات بشأنها، وإن انحصرت في مناطق محددة. فبعد مصادقة برلمان دولة جنوب السودان ومجلس تحرير "الحركة الشعبية" المعارضة بقيادة رياك مشار على اتفاقية سلام جنوب السودان، دخلت الاتفاقية عملياً حيز التنفيذ، ويُنتظر أن يعلن الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت برنامج حكومته خلال تسعين يوماً قبل تشكيل الحكومة الانتقالية.
وواجهت اتفاقية السلام التي دفعت بها الهيئة الحكومية للتنمية في دول شرق أفريقيا "إيغاد" لإنهاء الحرب الأهلية، عثرات كثيرة، إذ امتنع سلفاكير في بادئ الأمر عن التوقيع عليها قبل أن يعود ويوقّع عليها بشكل منفصل ويعلن تحفظاته عليها ويؤكد أنه وقّع عليها مرغماً.
وتتحفظ الحكومة في جوبا على نحو 12 بنداً في الاتفاقية، أوردتها في 17 ورقة سلمتها لـ"إيغاد"، بينها الإبقاء على الجيشين لمدة 18 شهراً، بينما تقترح ثلاثة أشهر، فضلاً عن تحفظاتها بشأن السلطات الممنوحة لنائب رئيس الجمهورية والبنود الخاصة بتقسيم السلطة في مناطق سيطرة المتمردين بأعالي النيل والوحدة وجونقلي.
ويرى مراقبون أن الاتفاقية يحاصرها "شيطان التفاصيل"، وتُواجه بهزات قد لا تجعلها تصمد، وقد يعمد أي طرف لاستغلال أي فرصة للعمل على إجهاضها بالنظر إلى فرضها على الأطراف المتفاوضة وعدم إفساح المجال أمامهم لمناقشتها، فضلاً عن إعلان كل طرف تحفظات عليها، إضافة إلى وجود مجموعات داخل كل طرف ترفضها من الأساس.
ويرى القيادي في المعارضة المسلحة، يوهانس موسى، أن "إيغاد" أخفقت عندما لم تعيّن مراقبين لوقف إطلاق النار قبل دخوله حيز التنفيذ، متهماً الحكومة في جوبا ببدء خرق الاتفاق عبر تحريك البوارج وضرب مناطق المعارضة بالطائرات.
في المقابل، تتهم جوبا المتمردين ببدء الهجوم، ويقول المتحدث الرسمي باسم الجيش الشعبي فليب اقوير لـ"العربي الجديد": "نحن ملتزمون تماماً بوقف إطلاق النار، لكن هناك انتهاكات من قِبل التمرد، خصوصاً في ولايتي الوحدة وأعالي النيل"، مشيراً إلى أنهم أبلغوا "إيغاد" بتلك الانتهاكات والتي من بينها الهجوم بالمدفعية على مطار ملكال.
وحول اتهام المتمردين لجوبا بتحريك البوارج، يوضح اقوير أن "تحريكها لم يكن بهدف مهاجمة المتمردين وإنما لإرسال الإمدادات لقوات الجيش في ملكال"، مرجّحاً أن يتحسن الوضع بعد الاتفاق على آليات تنفيذ بند الترتيبات الأمنية.
ويرجح مراقبون أن تشهد الفترة الانتقالية التي ستبدأ فعلياً مطلع ديسمبر/كانون الأول المقبل، صراعاً سياسياً بالنظر إلى الأطراف التي ستديرها والتي كانت يوماً ما تحت منظومة واحدة، وهي ممثلة في "الحركة الشعبية جناح الحكومة" والحركة جناح المعارضة المسلحة، والسلمية، والأخيرة يمثّلها المعتقلون العشرة بقيادة الأمين العام للحركة باقان أموم. هذا الأمر رأى سلفاكير فيه أنه سيصعب وحدة الحركة مرة أخرى وفقاً لاتفاق أروشا الأخير الذي توافقت عبره تلك الأطراف على الوحدة، وبموجبه أعيد كل من رياك مشار وباقان أموم لمنصبيهما في الحركة الأم اللذين كانا فيها قبل اندلاع الحرب في ديسمبر/كانون الأول 2013.
وتوقّع سلفاكير أن تواجه الاتفاقية صعوبات عملية عند التنفيذ، مؤكداً أنها ستجعل من مراجعتها أو تعديل بنودها أمراً حتمياً، لافتاً إلى أن البند الخاص بنزع السلاح من العاصمة جوبا وعواصم الولايات الأخرى وفقاً للاتفاق، دليل على عدم وجود اتفاق حقيقي بين الأطراف المعنية وإنما اتفاق فُرض على الجميع.
اقرأ أيضاً: جنوب السودان: سلفاكير يوقع اتفاقية السلام
ويرى رئيس جمعية الأخوة الشمالية الجنوبية، محجوب محمد صالح، أن عوامل انهيار اتفاق السلام متوفرة كما الاتفاقيات السابقة التي وُقّعت بين الطرفين وسرعان ما انهارت، معرباً عن شكوكه بأن يصمد الاتفاق "وخصوصاً أنه لم يُبنَ على أساس قوي لأن كل الدلائل تشير إلى انهياره، بدءاً بتحفظات الحكومة في جوبا، وصولاً إلى تحفظات الأطراف الموقّعة عليه".
ويعتبر صالح أن هذا الاتفاق "يُمثّل مشروعاً فرضه المجتمع الإقليمي بدعم من المجتمع الدولي رغماً عن إرادة الطرفين"، مستبعداً أن ينجح مشار في السيطرة الكاملة على المليشيات التي تقاتل معه، لا سيما أن بعضها جاهر بالعداء للاتفاقية الجديدة. كما يلفت إلى أن الضمانات التي يوفرها المجتمع الدولي بالتهديد والوعيد وإن كانت فاعلة فهي مؤقتة، معتبراً أن "المطلوب تحويل الاتفاق إلى اتفاق شامل بالتراضي بين كل القوى الجنوبية، يؤدي لتقسيم السلطة بالتراضي فضلاً عن حسم الصراع بين سلفاكير ومشار، وإلا فالجنوب سيتمزق".
يُذكر أن جنرالين في مجموعة مشار، هما بيتر قديت وغاتوث كوث، أعلنا في وقت سابق انشقاقهما عنه إضافة إلى عدد من القادة الكبار، رافضين تماماً الاتفاق الأخير الذي وقّعه مشار مع الحكومة لإنهاء الحرب في الجنوب. وأكدا أنهما الآن في حالة حرب ضد مشار والحكومة في جوبا، معتبرين سلفاكير ومشار رمزين للكراهية والانقسام والقيادة الفاشلة.
وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد بدأت أخيراً تحركات داخل أروقة مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات جديدة على قائد "الجيش الشعبي" بول مالونج وقائد المتمردين جونسون أولونج، تتصل بحظر السفر وتجميد الأصول، إلا أن القرار وُوجه باعتراض من قِبل روسيا وأنغولا وفنزويلا، التي طلبت تعليق الاقتراح لإفساح المجال للأطراف المعنية بتنفيذ اتفاق السلام.
ويرى مدير مركز دراسات السلام والتنمية في جامعة جوبا، لوكا بيونغ، أن العقوبات من شأنها أن تؤثر على تطبيق اتفاقية سلام الجنوب وستؤدي إلى آثار وخيمة، مشدداً على ضرورة عدم التسرع في إقرار هذه العقوبات والعمل على تفعيل آليات الاتفاقية للحد من الخروقات التي تمت. ويرجح بيونغ أن ترافق المرحلة الأولى من تنفيذ الاتفاقية جملة انتهاكات بسبب شعور كل طرف بأنه أجبر على التوقيع عليها، فضلاً عن أن الحكومة الانتقالية في تكوينها أُعدت بشكل يُصعّب اتخاذ القرار. ويلفت إلى أن "التحدي سيكون إلى أي مدى ستستطيع الحركة الشعبية بتياراتها المختلفة أن تُطبّق اتفاق أروشا، فضلاً عن إعادة لمّ شمل المعارضة المسلحة باعتبار أن انقسامها يشكّل تهديداً للاتفاقية"، معتبراً أن "الخرطوم بإمكانها العمل على معالجة الانشقاق الذي حصل في المعارضة المسلحة".
يُذكر أن أوغندا التي أقر الاتفاق بسحب قواتها من جنوب السودان خلال 45 يوماً من المصادقة على الاتفاق، تحرّكت أخيراً لإيجاد ضمانات تضمن مصالحها في الجنوب، عبر زيارة قام بها الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني إلى الخرطوم، التقى خلالها مشار بوساطة من الرئيس السوداني عمر البشير.
اقرأ أيضاً: تبادل اتهامات بخرق اتفاق السلام في جنوب السودان