بعد الاحتفاء بمئوية التشكيلية اللبنانية سلوى روضة شقير (1916-2017)، العام الماضي، رحلت أمس متمّة قرنها، خرجت من الحياة التي كانت تملّ منها ومن واقعيتها وتثور عليها في الفن وتثور على فنّها نفسه حين يغدو واقعياً أو مكرّراً.
من هنا، لن يكون غريباً أن تشاهَدَ أعمالٌ متنافرة للفنانة نفسها، تُظهر تقلّبات في مزاجها التشكيلي وتجريباً مستمراً وتثويراً لأدواتها بين رسم ونحت، سواء من حيث المدرسة والخامة والموضوع.
الشابة التي بدأت تلميذة في محترفَي مصطفى فروخ وعمر أنسي في بيروت، وانتقلت إلى باريس لتدرس الفن وتكون أول فنانة عربية تعرض ضمن "صالون الواقعيات الجديدة"، وصلت أخيراً إلى أن يحتفى بها في بلادها العام الماضي، بعد أن أن أقيم أكبر معرض لها طيلة حياتها في متحف "تيت" اللندني عام 2013.
للأسف تبدو شقير كما لو أنها فنانة اكتُشفت متأخراً ولم تقدّر قيمتها الفنية كما ينبغي، ولم يبدأ تداول اسمها كفنانة مؤثرة إلا في السنوات الأخيرة، حتى أن معظم أعمالها ما تزال حبيسة شقّتها، وغير مقتناة من قبل صالات عرض أو كثير من المتاحف عربية أو أجنبية.
كانت أول فرصة حقيقية لتعرض تجاربها المتنوّعة والمتباينة في النحت والرسم، حين عُرضت لها 160 قطعة في متحف "تيت"، وجاء هذا المعرض متأخراً بالنسبة إلى فنانة رائدة بدأت العمل من الخمسينيات، واقتصر حضورها العالمي تقريباً على منحوتة ترسلها كل عام للمشاركة في صالون أيار الباريسي.
في السبعينيات، بدت شقير مشغولة بتطوّر علوم الفضاء وأصبح موضوع تحرير قطعة نحتية من الجاذبية يروق لها، فقامت بتصميم قطع نحتية متماسكة نتيجة خيوط تشد بعضها بعضاً، لكنها قابلة للاهتزاز والتأرجح في الوقت نفسه، فتبدو كأنها قطع طائرة أو مجرة طائفة في الهواء. وكانت شقير فيها من أوائل من طبقوا مفهوم static dynamism في النحت آنذاك. يحسب لها أنها أيضاً استعانت بتصميم القصيدة العمودية لبناء منحوتات طويلة تبدو موزونة لكن كل قطعة من مكوّناتها يمكنها أن تقف وحدها مثل بيت شعر في مُعلّقة.
وفي فترة الحرب الأهلية في لبنان، أنتجت الكثير من القطع الثنائية، تبدو كما لو كانت شيئاً واحداً لكن أمراً طرأ ومزقه إلى نصفين، هذه القطع تظهر في حالة توق إلى الاندماج من جديد والتلاحم في بنية واحدة لكن شيئاً ما يحول دون ذلك.
في سنواتها الأخيرة ظلت شقير تعيش مع ابنتها هالا شقير، تشيخ في شقتها بين مئات القطع الفنية التي عاشت معها وتنسى الكلمات والذكريات. تقول ابنتها في مقابلة معها "أمي في البيت تشيخ بسلام، تفقد كلماتها، كان ممتعاً أني كبرت معها، فقد كانت تلعب طيلة الوقت"، مضيفة "لم تكن تحنّ إلى الماضي، كانت تؤمن بالمستقبل، وبالعلم".
أن تكون فناناً في أربعينيات القرن العشرين في باريس، يعني أن تتشرّب الكلاسيكيات ثم تثور عليها، وهكذا كانت شقير التي امتصّت الأساليب الكلاسيكية لتدخل التجريبية وتكون من روادها على مستوى الفن العربي الحديث، لكنها تبدو مختلفة في أعمالها النحتية، هناك مسار استحوذ عليها، وهو مسار الأشكال والتكوينات.
يمكن وصفها بأنها كانت خلاقة في هذه التكوينات وخاماتها، استخدمت أنواع مختلفة من الرخام والخشب الصقيل الصلصال الزجاج الليفي.
عن فنّها، تقول شقير في مقابلة تلفزيونية معها "القواعد التي طبّقتها كلها نابعة من نسب الفن الإسلامي، جُبت شوارع القاهرة ودخلت المساجد ودرست التصاميم، ووجدت النظرة التي كنت أبحث عنها في تلك الأيام، ولم يكن وارداً على بالي ولا بال أحد أنني سأعود إلى الهندسيات".
في عز الحرب، ظلت شقير تشتغل دون أن تحقق شهرة ولا صيتاً تشكيلياً ولم ينتبه أحد لما كانت تقوم به كل تلك السنوات، وحين قدّمت أعمالها في "تيت" كان من بينها لوحة مليئة بشظايا زجاجية نتيجة قذيفة ضربت الحي الذي تسكنه. تركت شقير اللوحة بشظايا الزجاج والتلف فيها كل تلك الأعوام، كأنها تلخيص لحياة عمل فنانة منعزلة في مدينة مشتعلة.