اسمه حي الشهداء، ويقع في الجهة الجنوبية من مدينة القنيطرة، أخذ اسمه من مقبرة الشهداء التي كانت تتصدّره بمسلّتها الشاهقة.
وإذا ما يممت وجهك إلى الحمّة السورية في الجنوب، ووقفت وسط الحي، فسيكون على يمينك الطريق المدني، وعن شمالك الطريق الحربي.
مع بدايات الربيع من عام 1967، كان الطريق الحربي يزدحم بالسيارات العسكرية وحمولتها من الذخيرة والجند والطعام، وكانت نسوة الحي يستقبلن القوافل بالزغاريد والأرز. والجند الذين يعتلون السيارات، يرفعون القبعات العسكرية مُحيّين الجموع الغفيرة على جانبي الطريق.
في المساء، كان موعد الجميع مع إذاعة صوت العرب من القاهرة، إذ ينتظرون المعلّق أحمد سعيد الذي كان يجعل من فلسطين محررة على بعد موجة إذاعية فقط.
كان الرجال الذين تحلّقوا حول المذياع يطربون حين يعلو صوت أحمد سعيد قائلاً: "تحرّك يا إشكول.. نتحداك يا إشكول.. تجوَّع يا سمك". والخيالات تأخذ الجميع إلى البلاد، أحدهم يتخيّل كيف سينزع اليافطة التي رفعت أمام سياج كان قد نصب حول "كُبانية" اسمها المجيدل، وآخر حول "كبانية" اسمها كنوسر.
أما خيالاتنا نحن الأطفال، فكانت ترهب السمك الذي جاع، ولا ندرك من التحدي سوى ذاك الذي يمكّننا من تسلق شجرة التين التي تحاذي مقبرة الشهداء.
في صباح الخامس من حزيران، كان صوت هديرها يطربنا، طائرة ميغ 17 مرت مسرعة من سماء القنيطرة، وانتظرنا عودتها طويلاً، وما زلنا ننتظر.
في ظهيرة اليوم ذاته، كان في سماء المدينة هدير من نوع آخر، لكننا لم نستطع إجلاء غموضه إلا عندما سقط في حي الشهداء؛ ما جعل النار تشب في مقر لجنود يحاذون المقبرة. من المذياع عرفنا اسم ذاك الشيء الغامض الذي كان ينشر الهدير، حيث المطرب يغني: "ميراج طيارك هرب.. مهزوم من نصر العرب".
لم يمض على هروب طيار الميراج التي كانت تسرح وتمرح من دون رادع أكثر من يوم، وكان المذيع يعلن في كل عشر دقائق بياناً عسكرياً: "تمكنت قواتنا الباسلة من إسقاط طائرتي ميراج. تم تدمير عشر آليات للعدو". وكانت حصيلة خسائر العدو حسب ما جاء في البيانات العسكرية الصادرة عن وزارة الدفاع السورية آنذاك، وهذا ما أدركناه حين كبرنا، يفوق الأسطول الجوي الإسرائيلي، ومقدرات الجيش الإسرائيلي كله.
يوم واحد ومع ظهيرة السادس من حزيران أعلن بيان عسكري عن سقوط القنيطرة، ونحن الأطفال نتساءل: كيف وقعت القنيطرة، وكيف لمدينة أن تقع، لأننا لم نكن ندرك معنى السقوط. لكننا كنا على يقين من أنّ حدثاً جللاً قد حدث من دموع الرجال.
وعيوننا ترقب السلاح الأبيض الذي دعا للقتال فيه من أذاع البيان العسكري، وأرهقنا أن لون البندقية في يد جدّي الذي كان أحد المتطوعين في الجيش الشعبي ليس أبيض.
الرجال في حالة ترقب لكل الدروب المؤدية إلى حي الشهداء في القنيطرة، ونحن الذين رفضنا التواري في الملجأ نرقب معهم الدروب.
يومان مرّا بعد السقوط ولا جديد، سوى ما عرفنا في ما بعد معناه، وهو الانسحاب الكيفي للجنود، هؤلاء الذين كانوا يمرّون بنا بلا قبعاتهم وبواريدهم.
في اليوم الرابع، كانت سيارة نقل كبيرة تحمل من تبقى من أهل الحي إلى المجهول، جدّي الذي كان يحتفظ بكواشين الأرض في فلسطين، ومفتاح داره في مغار حزور، رفض أن تحمل جدّتي ما تيسر من الأغطية للأطفال الكثر. بعلو صوته صرخ: يومين وراجعين.
هذا نحن ما زلنا ننتظر اليومين، ووزير الدفاع الذي أعلن عن سقوط القنيطرة صار رئيساً للبلاد، وربما لم ينتظر طويلاً مثلنا. مات جدي منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود وهو ينتظر، ونحن الذين لفتنا مدرسة في منطقة الفحامة في دمشق آنذاك، ثم لمّنا مخيم اسمه اليرموك، ما زلنا ننتظر، والبلاد ليست أبعد من موجة عنّا.
* كاتبة فلسطينية سورية