تمكنت قوات "البشمركة"، التابعة لإقليم كردستان العراق، من استعادة السيطرة على مدينة سنجار، وطرد مسلّحي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) منها، بعد 15 شهراً من السيطرة عليها. وأسفرت سيطرة التنظيم على المدينة طوال الأشهر الماضية عن مقتل وفقدان نحو خمسة آلاف شخص، واعتقال وسبي عدد مماثل معظمهم من النساء. لكن النصر في سنجار الذي وُصف بـ"السريع"، لا يخفي حقيقة أنه تمّت استعادة مدينة مدمّرة جديدة على غرار مدينة عين العرب السورية، وبتحديات لا تقل خطورة، وخصوصاً بعدما بدأت المدينة تشهد أعمالاً انتقامية تقوم بها مليشيات إيزيدية.
تحديات الإعمار
تُعتبر معركة استعادة سنجار نوعية، وفقاً لمراقبين عسكريين، على مستوى المعارك التي تخوضها القوات العراقية ضد "داعش" عقب سيطرته على ما لا يقلّ عن ربع مساحة الأراضي العراقية، في يونيو/ حزيران 2014. ويفيد مراقبون بأنه لم يسبق أن تمكنت القوات العراقية من استعادة مدينة بحجم سنجار خلال 48 ساعة فقط، إذ استمرت المعارك من الساعة السابعة من صباح الخميس 12 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بالتوقيت المحلي، حتى الساعة الثالثة من عصر اليوم التالي الجمعة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني. أي ما مجموعه 32 ساعة من المعارك.
في السياق، يذكر مستشار الأمن الوطني في إقليم كردستان العراق، مسرور البرزاني، في بيانٍ له، أمس الأحد، أن "استعادة سنجار نصر تحقق بسرعة كبيرة لقوات البشمركة، انتهت بالسيطرة على المدينة وضواحيها". وقد استعادت "البشمركة" المدينة، والتي هي مركز القضاء الذي يحمل اسمها، بالإضافة إلى 28 قرية تتبعها. وبلغت مساحة الأراضي التي تمّت استعادتها في المعركة، نحو 200 كيلومتر مربّع. ويلفت البرزاني في تصريحات صحافية إلى أنه "رأينا حجم الدمار الكبير الذي حلّ بسنجار. والمدينة تكاد تكون مدمّرة تماماً. لذلك فإن سنجار والقرى والتجمّعات السكانية المجاورة لها، تحتاج إلى إعمارها من جديد. ومن دون شك، فإنه على رأس أولوياتنا، تطهير المنطقة من الألغام والعبوات المزروعة، ثم إطلاق حملات وبرامج لإعمار المنطقة".
ويكشف عن توجّه للإعلان عن تأسيس صندوق دولي لإعادة إعمار سنجار، مبيناً "يجب أن يساعدونا في إعمار المدينة والقرى المجاورة لها، حتى تُصبح الحياة فيها ممكنة. كما يجب مساعدة كل هذه الأعداد من النازحين، والذين تركوا مناطقهم للعودة إليها من جديد. وقبل كل شيء، يبقى من المهم الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة والدفاع عنها". وقد هُزم مسلّحو "داعش"، تاركين خلفهم 300 جثة لمقاتليهم، فيما هرب عدد آخر من مسلّحيهم باتجاه الأراضي السورية، وإلى بلدة تلعفر، ومدينة الموصل.
اقرأ أيضاً: اشتباكات مسلّحة بين البشمركة ومليشيات الحشد شمالي العراق
استعادة الاستقرار
تسبّب احتلال "داعش" للمدينة، بقتل وسبي ما لا يقلّ عن عشرة آلاف من سكانها، وتشريد نحو 400 ألف آخرين، تركوا المدينة بعدما تحوّلت أجزاء واسعة منها إلى خرائب. كما لا تزال الكثير من دور وعقارات سنجار مهددة بالتدمير، بسبب الألغام والعبوات الناسفة الكثيرة، والتي زرعها المسلحون فيها قبل هزيمتهم.
وعليه، لا تزال الحركة داخل سنجار محدودة، وتقتصر حالياً على مقاتلي "البشمركة"، كونه لم يُسمح بعد للأُسَر بالعودة إلى البلدة بسبب الألغام. وتقوم فرق الهندسة العسكرية بإزالة القنابل والعبوات، والتي يعود سبب انتشارها الكبير في سنجار وغيرها، إلى التكتيك الذي يعتمده "داعش"، بإقامة مصانع لإنتاج العبوات والقنابل في كل بلدة يحتلّها، كما فعل في سنجار، بعد تحويله أجزاء من مستشفى حكومي في المدينة إلى مصنع للقنابل.
بالنسبة للمسؤولين الأكراد، فإن "أولويتهم بالنسبة إلى سنجار حالياً، هي دعم عمليات إعمارها ومساعدة سكانها على الاستقرار فيها من جديد". وينتظر سكان سنجار بترقب تلقي الضوء الأخضر للعودة إليها، إذ حاول بعض السكان العودة بعد تحريرها مباشرة، إلا أن "البشمركة" منعتهم خوفاً على سلامتهم بسبب الألغام.
والى جانب عمليات البحث عن العبوات الناسفة والألغام الأرضية، يجري البحث عن قبور جماعية دفن المسلحون فيها ضحاياهم من أهالي سنجار. وقد اكتشفت قوات "البشمركة" بعد يوم من دخول المدينة قبراً ضم رفاة نحو ثمانين امرأة وفتاة من أهالي سنجار.
وبخلاف الانتشار السريع لـ"داعش" والسيطرة على البلدات والمدن والمناطق في العراق وسورية، تُعدّ عملية استعادة تلك المناطق صعبة من الناحية العسكرية، بسبب الخبرات القتالية والتسليح الجيد من جانب المسلحين. وهو ما يفسّر التقدم البطيء في المعارك، لكن المعضلة الأكبر تبقى في إزالة آثار احتلال التنظيم للمناطق. وقد ترك مسلّحو "داعش" المناطق التي انسحبوا منها، مدمّرة بشكل كبير، وتحتاج إلى مبالغ طائلة وجهود كبيرة لإعادة إعمارها.
ولا يزال نموذج مدينة عين العرب السورية ماثلاً في الأذهان، والتي أسفرت المعارك فيها عن تدمير المدينة، وبعد مُضي أشهر على طرد المسلّحين منها، لا يجد سكانها دعماً كافياً لإعمارها.
منع الانتقام
من جهته، يؤكد الزعيم القبلي المحلي رافع المناوي، تعرّض القرى الواقعة في الجانب الغربي لسنجار، إلى "اعتداءات غير مبررة من قبل مليشيا مسلحة يقودها ششو"، موضحاً في حديثٍ لـ "العربي الجديد"، أن "المسلحين الإيزيديين اعتقلوا عدداً من الأشخاص واقتادوهم إلى جهة مجهولة، وخيّروا الأُسَر العربية الموجودة في محيط المدينة بين الرحيل أو الموت".
أما رئيس ائتلاف "متحدون" أسامة النجيفي، فيُحذّر من "عواقب التجاوز على سكان القرى والقصبات التي كانت خاضعة لتنظيم داعش". ويؤكد في بيانٍ أن "الإرهاب كان وسيبقى، يستهدف الجميع"، داعياً القوى الأمنية إلى "التعامل مع مواطني المناطق المحررة، بما ينسجم مع روح الانتصارات المُحقّقة والالتزامات الوطنية والمبدئية". ويُشدّد النجيفي على "ضرورة تثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة، وملاحقة الفئة الضالة التي انجرفت مع الإرهاب وارتكبت جرائم بحق العراقيين وتقديمها للقضاء لتنال جزاءها العادل"، مؤكداً أن "النصر في سنجار يُمثّل درساً بليغاً للإرهابيين".
منطقة استراتيجية
تُعدّ سنجار والنواحي والقرى التابعة لها منطقة استراتيجية، باعتبارها ممرّاً مهماً، يربط المناطق التي تخضع لسيطرة "داعش" بشمال العراق، مثل تلعفر والموصل وغيرها، بالأراضي السورية. وظلّ المسلحون يستعملون طريق سنجار للوصول إلى سورية، وحتى عاصمة التنظيم في مدينة الرقة. بالإضافة لتوفير الدعم اللوجستي للمعارك على جانبي الحدود في العراق وسورية.
ويجاور سنجار المدينة، جبل يحمل اسمها، يمتد على شكل سلسلة جبلية طويلة لكيلومترات عدة، تقع على الحدود مباشرة، وهو ما يعطي الموقع أهمية في تأمين عمليات رصد الحركة في المناطق القريبة، ومنع أية محاولات للجماعات المسلّحة من الاقتراب من المنطقة وشنّ هجمات ضدها. ويريد الأكراد، أن تشكل استعادة سنجار بداية لاستعادة مناطق أخرى لا تزال تحت سيطرة المسلحين، مثل بعشيقة، وبحزاني، وباطنايا، وتلعفر، وبرطلة، وكرملس، وبخديدا، وتلكيف، وغيرها من المناطق التي يسكنها خليط من الأكراد والمسيحيين والإيزيديين والتركمان، وتقع على تخوم مناطق إدارة حكومة إقليم كردستان.
اقرأ أيضاً: التوتر بين "الحشد الشعبي" و"البشمركة" يصل ديالى
وعلى صعيد تأثير استعادة سنجار على خطط التحالف الدولي ضد "داعش"، والذي تقوده الولايات المتحدة، في الحرب ضد التنظيم، يأتي هذا التقدم في الحرب بمثابة ردّ على الانتقادات التي وُجّهت إلى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. وقد وُصفت استراتيجية أوباما في محاربة التنظيم بـ"العديمة الجدوى والتأثير" وأنها "تسير ببطء شديد"، و"تعطي مزيداً من الثقة للتحالف الجديد ضد داعش، ممثلاً بروسيا وإيران وسورية والعراق". كما تُعدّ المعركة إحدى النتائج المثمرة للدعم الذي يقدمه التحالف الدولي للقوات المحلية على الأرض، تحديداً "البشمركة"، وسيُعزز ذلك العلاقة بين الجانبين، في تكرار التجربة في مناطق أخرى.
ويهم التحالف الدولي من نتائج معركة استعادة سنجار قطع طريق التواصل بين مسلّحي "داعش" في العراق وسورية، فطريق التواصل يمرّ عبر سنجار، ويُطلق عليه "طريق 47". وقد ذهب الرئيس الأميركي إلى حدّ الإعلان في تصريحات صحافية أنه "بعد طرد داعش من سنجار، يتمّ احتواؤه حالياً". وتلاه وزير خارجيته جون كيري، والذي اعتبر أن "أيام عمر داعش باتت محدودة".
اقرأ أيضاً: انتصارات سنجار والرمادي لمحاصرة "داعش" بالموصل قبل نهاية العام