22 فبراير 2016
سوء استغلال السلطة!
أصبحت مستهلكة ورخيصة سكة أن يلجأ الكاتب إلى ممارسة "السسبنس" على قرائه، ببدء مقاله بفقرة مؤثرة تصف الأحوال السياسية الراهنة، قبل أن يفاجئ قراءه بأن تلك الفقرة كتبها الكاتب الفلاني قبل خمسين سنة أو سبعين، أو أحياناً مائة سنة، ليذكرهم بمأساة أننا ما زلنا نعيش في ماضينا السحيق، ونحسب أننا نعيده، بينما نحن لم نبرحه أصلاً، وهو ما سأفعل عكسه اليوم، لأقول لك من أولها أن المقتطف الذي ستقرأه، في الفقرة التالية، كتبه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في مقال نشره في أبريل/ نيسان 1935 قائلاً:
"منذ عام ونصف عام تظهر الفضيحة إثر الفضيحة، وتُعلن المخزية إثر المخزية، والمصريون ينظرون ويسمعون ويألمون، ويشكون ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا. كلا. لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عوقب المسيء على إساءته، ولن تصلح للمصريين حياة إلا إذا سُئل المجرم عن جريمته... نعم، لن تستقيم لمصر أمورها حتى تنهى التقاليد وزير التقاليد وأمثاله عن استغلال المدارس لما لم تنشأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم ينشأ له السلطان. أما بعد، فقد كنت أظن، يا سيدي، أنك ستحزن إن نظرت إلى يمين، فرأيت الطغاة، وقد انهزموا بعد انتصار، وذلوا بعد عزّ، وأنك ستضحك إن نظرت إلى شمال، فرأيت التقاليد تلعب حول وزير التقاليد، ولكني رأيتك محزوناً في الحالين، يضحك وجهك وتبكي نفسك، فلا تلمني في هذا، ولكن لُم حياتنا المصرية، وأذكر أن أبا الطيب قد تنبأ لك ولك، ولأمثالنا منذ ألف سنة، بهذه الحال: وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا".
ختم طه حسين، رحمه الله، بهذه الفقرة مقالاً له بعنوان (بين الأدب والسياسة جد وهزل)، كان يتحدث فيه عن مظاهر الفساد في الحياة المصرية، والتي كان من أكثرها ترويعاً له، في ذلك الوقت، أن مدارس الصناعات والزراعة تعودت على أن تبعث ببعض منتجاتها كهدايا لبيت وزير المعارف، الذي يسميه تهكماً بوزير التقاليد، يمكن لو أردت أن تقرأ نص المقال كاملاً في كتاب (بين بين)، الذي هو للأسف من كتبه المغمورة التي لم تتم إعادة طبعها لسنوات طويلة، وإن كان من حسن حظ الأجيال الجديدة أن جميع كتب طه حسين متوفرة الآن مجاناً وبشكل شرعي على موقع مؤسسة هنداوي، بما فيها كتبه المشهورة وترجماته وكتبه المغمورة التي تجمع مقالاته السياسية الرائعة التي كان يكتبها في الثلاثينيات والأربعينيات. http://bit.ly/1qMZbKw
ستضمن لنفسك المتعة والفائدة، وأنت تقرأ كتب طه حسين، لتناقش أفكارها وتحللها وتنقدها، لكنك سترى، خلال رحلتك معه، كيف تطورت أفكاره عبر كتبه المتتالية، والتي كان فخوراً بها جميعاً حتى رحيله، فلم نقرأ في مذكرات أصدقائه ورفاقه أنه طلب منع بعض كتبه من الطبع، أو أنه اعتبرها جريمة تستحق أن يتوب عنها، كما حاول أن يصور الدكتور محمد عمارة، في كتاب أصدرته مجلة الأزهر "الوسطية"، وعرضه الأستاذ فهمي هويدي، في مقال اختار له عنواناً غريباً هو (طه حسين أوّاباً)، متبنياً ادعاء عمارة بأن طه حسين "تاب عن كتبه سراً"، قبل أن يموت، وبعد أن أدى فريضة الحج، موحياً أن خوفه من زوجته المسيحية منعه من إعلان تلك التوبة، ليتم تصوير كتب طه حسين، لمن لم يقرأها بأنها مليئة بالمعاصي والآثام، وليتم بشكل مخجل اختزال تجربة طه حسين، الغنية والمركبة، في ثنائية (التوبة والعصيان)، من دون أن يتذكر الأستاذان، هويدي وعمارة، أن أي عمل فكري أو أدبي حتى لو تراجع كاتبه عنه ـ وهو ما لم يثبت حدوثه في حالة طه حسين ـ ينفصل عن شخص كاتبه بعد ظهوره للنور، ليبقى الحكم عليه لقارئه، تماماً كما يبقى الحق في أحكام الهداية والضلال لله وحده يوم القيامة.
على أية حال، رحل جسد طه حسين، لكن كتبه وأفكاره ستبقى، تماماً كما ستبقى في قلوبنا الحسرة على مصر المبتلاة بمرض سوء استغلال السلطة الذي شخّصه طه حسين، ولم يكن يعرف، وقتها، أن مصر بعد ثمانين عاماً من تشخيصه ستختار الانشغال بتهمة مستحدثة، سماها حكامها (سوء استغلال الإنترنت)، في نموذج صارخ لاختلال معاييرنا التي جعلتنا لا ندرك أن سوء استخدام السلطة أخطر، مليون مرة، من سوء استخدام الإنترنت، أو غيره من مساحات التعبير عن الرأي، وحتى ندرك ذلك، سنظل، للأسف، على "حطة إيد" الذي كان جدنا العظيم طه حسين يمليه، حين قال "لن تصلح للمصريين حياة، إلا إذا سُئل المجرم عن جريمته".
"منذ عام ونصف عام تظهر الفضيحة إثر الفضيحة، وتُعلن المخزية إثر المخزية، والمصريون ينظرون ويسمعون ويألمون، ويشكون ثم تنتهي أمورهم عند هذا. كلا. كلا. لن تستقيم للمصريين أخلاق إلا إذا عوقب المسيء على إساءته، ولن تصلح للمصريين حياة إلا إذا سُئل المجرم عن جريمته... نعم، لن تستقيم لمصر أمورها حتى تنهى التقاليد وزير التقاليد وأمثاله عن استغلال المدارس لما لم تنشأ له المدارس، واستغلال السلطان لما لم ينشأ له السلطان. أما بعد، فقد كنت أظن، يا سيدي، أنك ستحزن إن نظرت إلى يمين، فرأيت الطغاة، وقد انهزموا بعد انتصار، وذلوا بعد عزّ، وأنك ستضحك إن نظرت إلى شمال، فرأيت التقاليد تلعب حول وزير التقاليد، ولكني رأيتك محزوناً في الحالين، يضحك وجهك وتبكي نفسك، فلا تلمني في هذا، ولكن لُم حياتنا المصرية، وأذكر أن أبا الطيب قد تنبأ لك ولك، ولأمثالنا منذ ألف سنة، بهذه الحال: وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا".
ختم طه حسين، رحمه الله، بهذه الفقرة مقالاً له بعنوان (بين الأدب والسياسة جد وهزل)، كان يتحدث فيه عن مظاهر الفساد في الحياة المصرية، والتي كان من أكثرها ترويعاً له، في ذلك الوقت، أن مدارس الصناعات والزراعة تعودت على أن تبعث ببعض منتجاتها كهدايا لبيت وزير المعارف، الذي يسميه تهكماً بوزير التقاليد، يمكن لو أردت أن تقرأ نص المقال كاملاً في كتاب (بين بين)، الذي هو للأسف من كتبه المغمورة التي لم تتم إعادة طبعها لسنوات طويلة، وإن كان من حسن حظ الأجيال الجديدة أن جميع كتب طه حسين متوفرة الآن مجاناً وبشكل شرعي على موقع مؤسسة هنداوي، بما فيها كتبه المشهورة وترجماته وكتبه المغمورة التي تجمع مقالاته السياسية الرائعة التي كان يكتبها في الثلاثينيات والأربعينيات. http://bit.ly/1qMZbKw
ستضمن لنفسك المتعة والفائدة، وأنت تقرأ كتب طه حسين، لتناقش أفكارها وتحللها وتنقدها، لكنك سترى، خلال رحلتك معه، كيف تطورت أفكاره عبر كتبه المتتالية، والتي كان فخوراً بها جميعاً حتى رحيله، فلم نقرأ في مذكرات أصدقائه ورفاقه أنه طلب منع بعض كتبه من الطبع، أو أنه اعتبرها جريمة تستحق أن يتوب عنها، كما حاول أن يصور الدكتور محمد عمارة، في كتاب أصدرته مجلة الأزهر "الوسطية"، وعرضه الأستاذ فهمي هويدي، في مقال اختار له عنواناً غريباً هو (طه حسين أوّاباً)، متبنياً ادعاء عمارة بأن طه حسين "تاب عن كتبه سراً"، قبل أن يموت، وبعد أن أدى فريضة الحج، موحياً أن خوفه من زوجته المسيحية منعه من إعلان تلك التوبة، ليتم تصوير كتب طه حسين، لمن لم يقرأها بأنها مليئة بالمعاصي والآثام، وليتم بشكل مخجل اختزال تجربة طه حسين، الغنية والمركبة، في ثنائية (التوبة والعصيان)، من دون أن يتذكر الأستاذان، هويدي وعمارة، أن أي عمل فكري أو أدبي حتى لو تراجع كاتبه عنه ـ وهو ما لم يثبت حدوثه في حالة طه حسين ـ ينفصل عن شخص كاتبه بعد ظهوره للنور، ليبقى الحكم عليه لقارئه، تماماً كما يبقى الحق في أحكام الهداية والضلال لله وحده يوم القيامة.
على أية حال، رحل جسد طه حسين، لكن كتبه وأفكاره ستبقى، تماماً كما ستبقى في قلوبنا الحسرة على مصر المبتلاة بمرض سوء استغلال السلطة الذي شخّصه طه حسين، ولم يكن يعرف، وقتها، أن مصر بعد ثمانين عاماً من تشخيصه ستختار الانشغال بتهمة مستحدثة، سماها حكامها (سوء استغلال الإنترنت)، في نموذج صارخ لاختلال معاييرنا التي جعلتنا لا ندرك أن سوء استخدام السلطة أخطر، مليون مرة، من سوء استخدام الإنترنت، أو غيره من مساحات التعبير عن الرأي، وحتى ندرك ذلك، سنظل، للأسف، على "حطة إيد" الذي كان جدنا العظيم طه حسين يمليه، حين قال "لن تصلح للمصريين حياة، إلا إذا سُئل المجرم عن جريمته".