لا أذكر تماماً تفاصيل الحياة اليومية قبل ذلك، لكن أذكر يوم ارتسمت ابتسامة في قلوب السوريين لساعات قبل بدء المذبحة.
بكى السوريون طويلاً، لكن أياً من الأبواب لم يُفتح! اختلف العالم على التسمية: ثورة وفورة، مؤامرة وعراعرة… لكن أحداً لم يختلف على استمرار المجزرة، نددوا بمقتل حمزة الخطيب، نددوا بالعنف، وأتخم القلق بان كي مون، والمذبحة مستمرة!
أشاح العالم بوجهه عن مشهد الدم، عن مشهد الألم، ولم يحرّك شوارع باريس سحل أم على قارعة الرصيف في درعا، ولم تتحرك شوارع الرياض أيضاً!!، فهي ليست رسماً، إنها من لحم ودم!! بمزيد من فيض الكراهية والأحقاد، والمزيد من المتابعين، الاتجاه المعاكس ما زال مستمراً، طالما أن المذبحة مستمرة.
مؤتمرات الحوار، الندوات والهيئات، كلها مستمرة. وحدهم يموتون، في درعا، ودوما، في حلب وحمص، في إدلب والرقة، وفي الزعتري أيضاً.
تاريخ الخوف والصمت الذي لازم السوريين عقوداً، تُوّج بالبراميل، تُوّج باللجوء، بالجوع، والبرد، بالخذلان والإهانة، تُوّج بالموت. لست أذكر تماماً تفاصيل الحياة اليومية قبل ذلك، أذكر خوفي فقط، من شرطي المرور، من علي الديك، من عبدالله الأحمر (أذكر اسمه ولا أعرف فعلا من يكون)، من أمين الفرقة الحزبية، أذكر سورية الصامتة إلى الأبد.
ذكرت مرة علناً أني لست معجباً بأعمال الفنّان أحمد معلا، فوصلتني رسالة في اليوم ذاته، من أبرز المدافعين عن حقوق المواطنة (وما زال طبعا): "شو هالرأي هاد! بدّك أحمد يكسرلك راسك، لازم تعتذر!" لم أعتذر يومها يا دكتور! لكن أتذكر خوفي آنذاك منك ومن فنانك!
في دمشق، رسمت حبال الغسيل، وذكريات معلقة، رسمت سهل حوران مجرّداً، لم أضف إليه آنذاك وجوهاً سمراء من بصر الحرير أتعبها صوت الموت. غادرت المكان الذي عشته ثلاثين عاماً، لأرسم تفاصيل وقصصاً لم أرها أبداً، الخريطة أصبحت رمزاً، والدمار حمل قصص الناس ومخاوفهم، حمل اللحظة الأخيرة قبل البرميل، حمل صراخاً عالياً، صدى الحناجر الأوّل ظل يعلو ويعلو، رغم كل هذا الجنون، وكل هذا العهر.
ما زالت فكرة الثورة واضحة معلقة في سماء سورية، هي التي وُلدت بعدها مرة أخرى في الثلاثين من عمري.
هامش:
وُلد الرسام والفنان الرقمي السوري، تمام عزّام، في دمشق عام 1980، وانتقل خلال سنوات الثورة السورية الأولى إلى دبي، حيث تابع عمله الفني، هرباً من الخدمة العسكرية الإجبارية التي استُدعيَ إليها، مُحاولاً التعامل مع تداعيات الحرب بالفنّ.
وجمع تمام عزام بين لوحات الفنانين الغربيين، مثل فان غوغ وسلفادور دالي، وبين مشاهد الخراب والدمار في سورية، فجسّد بأعماله مشاهد دمجت الدراما بالكوميديا، ويهدف ذلك إلى تسليط الضوء على الواقع السوري والمعاناة المستمرّة في بلاده. عُرضت أعمال عزام في عدة صالات عرض عربية ودوليّة ومنها: سلوفينيا (2013)؛ غاليري أيام بيروت (2013)؛ غاليري أيام لندن (2013).