24 نوفمبر 2022
سورية أنموذج للاستعمار الحديث
مع حلول الربع الأخير من القرن العشرين كانت جميع الدول العربية تقريبا قد نالت استقلالها وتخلصت من براثن الاستعمار وويلاته، بعد ذلك توالت الأحداث واتضحت توجهات هذه الدول وبدت الشكوك تحوم حول حقيقة هذا الاستقلال، فهل هو استقلال حقيقي أم هو مجرد استقلال صوري؟
من الناحية القانونية تمتعت بفضله تلك الدول بعضوية الأمم المتحدة وحق التمثيل الخارجي وتبادل السفراء مع بقية دول العالم، بينما بقيت أسيرة من الناحية الواقعية للمستعمر الراحل، تخضع لوصايته ونفوذه، لا سيما في القرار السياسي والاقتصادي.
كان من أكثر المشككين في الاستقلال المزعوم مفكرو التيار الإسلامي الذين ما برحوا ينظرون لنظرية رحيل المستعمر من الأرض مع تركه وكلاء يرعون مصالحه ويسهرون من أجلها، قد تكون هذه النظرية متطرفة نوعا ما، فعلى الرغم من الأنظمة التي تربعت على عرش السلطة في هذه الدول فإن معظمها اعتراها الفساد والاستبداد واكتسبت شرعيتها برضا وقبول الاستعمار الراحل.
إلا أن ذلك لا يعني عمالتها بالضرورة على طول الخط لدرجة وصفها بأنها ترعى مصالح المستعمر وشؤونه في المنطقة، خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار تغير موازيين القوى على الساحة الدولية، فالدول الاستعمارية الأوروبية فقدت قيادتها للعالم لمصلحة قوى صاعدة متمثلة بالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك، روسيا الاتحادية حاليا.
وعلى النقيض كان هناك الكثير من الوطنيين والعلمانيين الذين تطرفوا في تمجيد الأنظمة الحاكمة والتغني بالاستقلال والتحرر من الاستعمار ونسبة فضل التخلص من الاستعمار الجاثم على الصدور إلى الأنظمة التي خلفت الاستعمار بعد رحيله، وبين هذا التطرف وذاك بقي السجال يدور بين تيار لا يرى في الأنظمة إلا الفساد والخيانة والعمالة وآخر يمجدها ويصفها بما ليس فيها من صفات البطولة والعزة والإباء، وكانت الشعوب منقسمة بانقسام التيارين، إن لم تكن التيارات الفكرية القائمة في فترة ضعفت بها الأمة وسقطت فيها الخلافة وحلت محلها دول عديدة على أساس قومي، لم يكن هناك ما يؤكد قطعية الاستعمار الحديث الذي تمت الاستعاضة به عن الاستعمار التقليدي.
إلأ أن قيام الثورة السورية وما صاحبها من تكالب للقوى العظمى على هذا البلد العربي بين مؤيد للنظام وآخر داعم للمعارضة، قدم صورة واضحة وأنموذجاً للاستعمار الحديث فلا الروس يعشقون الأسد ولا الغرب تهمه المعارضة.
إن ما يجري على الأرض السورية اليوم ما هو إلا صراع على النفوذ والسيطرة على مقدرات هذا البلد، والنظام المجرم القائم ليس إلا وكيلا وسمسارا لشركات المستعمر ومصالحه، وقراره السياسي مرهون برغبة المستعمر وإرادته، وبالقياس المعارضة ستكون رهينة وخاضعة لمن يدعمها وبالتي ستكون هي الأخرى مجرد وكيل وسمسار لا أكثر، هذه هي حقيقة الاستعمار الحديث!
هو استعمار نفوذ واستثمار وتبعية سياسية لا يختلف عن الاستعمار التقليدي سوى بوجود الدبابة علـى الأرض في هذا الأخير وبتبعية الدولة المُستعمَرة قانونيا للدولة المستعمِرة، وبعبارة أخرى الاستعمار الحديث استعمار ضمني بينما كان الاستعمار التقليدي استعماراً صريحاً، لذلك بعد الأزمة السورية وتجلي الاستعمار الحديث فيها بأوضح صوره حُقّ للجدل حول استقلال الدول العربية أن يتوقف.