من بين الهجرات وعمليات النزوح الكثيرة التي جرت ولا تزال في سورية، منذ بدء الثورة عام 2011، تبدو هجرة أكثر من مليون ونصف المليون شخص من المحافظات الشمالية، تحديداً حلب وإدلب، إلى الساحل السوري، الأكثر إثارة للاهتمام، على اعتبار أنها تتم من المناطق "المحررة" إلى مناطق "الخصم"، أو بتعبير آخر من "المناطق السنية" إلى "المناطق العلوية".
وكانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أعلنت أن عدد سكان المناطق الساحلية ارتفع بنسبة 50 في المئة، مع تزايد أعداد النازحين الذين فرّوا من أعمال العنف في بقية المحافظات السورية. ويحذّر أحد مسؤولي المنظمة الدولية، باتريك لويزييه، الذي يعمل في مدينة طرطوس، من أن "تؤدي موجة النزوح إلى صعوبات لدى النازحين والمجتمعات المضيفة على السواء"، لافتاً إلى الاستنفاد المتزايد للموارد المحلية. ولا تقتصر هذه الهجرة على سكان المحافظات التي تشهد مواجهات مسلحة بين قوات النظام والمعارضة، بل تشمل النازحين من ريف اللاذقية الشمالي، كسلمى وكنسبا والحفة، بعد دخول قوات المعارضة إلى مناطقهم.
وتشير الأرقام إلى أن النازحين إلى منطقة الساحل باتوا يشكلون نحو نصف سكانها، ويعيش أصلاً في المنطقة 1.8 مليون شخص، منهم 1.2 مليون علوي، و665 ألفاً من غير العلويين، بينهم 340 ألف سنّي، والبقية من المسيحيين. وبإضافة النازحين الجدد، ومعظمهم من السنّة، إلى السكان السنة الموجودين أصلاً في محافظتي اللاذقية وطرطوس، يتحوّل السنة إلى أغلبية في الساحل، الذي يعتبر المعقل السياسي والأمني للنظام السوري.
وفضلاً عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي يسببها العدد الكبير من النازحين، فإن أبناء الطائفة العلوية يتخوّفون من حدوث تحوّل ديموغرافي لمصلحة السنة، وهو ما دفع أهالي حي الغدير في مدينة طرطوس الى الاعتراض على قرار رسمي صادر عن محافظ المدينة بإسكان 2500 نازح في مجمع سكني مخصص لهم.
كما يشير ناشطون إلى أن تدفق رؤوس الأموال الحلبية إلى الساحل، وتأسيسهم مشاريع تجارية وصناعية، ساهم في تقليص فرص الاستثمار لدى أبناء الساحل، إضافة إلى بروز ارتفاع جنوني في أسعار العقارات والسلع، الأمر الذي ساهم، بحسب ناشطين، في بروز ردود فعل سلبية لدى سكان هذه المدن، إذ ارتفع إيجار المنزل ثلاثة أو أربعة أضعاف.
ويملك سكان مدينة حلب تقاليد عريقة في التجارة والصناعة، على عكس أهالي الساحل الذين يعتمدون على السياحة وبعض الصناعات البسيطة. كما تحدثت صحيفة "الوطن"، المقرّبة من النظام، عن عودة 40 صناعيّاً حلبيّاً من مصر، ومباشرتهم العمل على إقامة منشآت صناعية في المنطقة الحرة في اللاذقية.
وأنشأ ناشطون مؤيدون للنظام، على موقع التواصل الاجتماعي، صفحة بعنوان: "معاً لطرد النازحين من الساحل السوري"، بدعوى أن "أقارب النازحين القادمين من حلب وإدلب هم الذين يقومون بقتل عناصر الجيش النظامي".
ويذكر ناشطون لإحدى محطات الإذاعة المعارضة، أن قوات النظام السوري تشنّ حملة تجنيد إجباري للشبان النازحين إلى اللاذقية من الساحل السوري، تزامناً مع الخسائر الفادحة التي تتكبّدها في مختلف الجبهات، ويكون التجنيد، بحسب هؤلاء، لمصلحة ميليشيا "الدفاع الوطني"، وليس الجيش السوري النظامي.
وتقيم غالبية هؤلاء النازحين في ملاجئ مؤقتة أو مخيمات عشوائيّة، ويستأجر بعضهم منازل، تحديداً في المناطق السنية في المدينتين، بينما يتجنبون بشكل عام الاستئجار من السكان العلويين، الذين لا يحبذون بدورهم تأجير منازلهم للنازحين الجدد. وعلى الرغم من أن هذا التبدّل السكاني يبدو طارئاً ومؤقتاً، إلا أنه مرشح أيضاً لأن يكون دائماً أو شبه دائم، وذلك حسب التطورات السياسية.
ويقول الكاتب السوري راتب شعبو، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "هذه التبدلات ستسهم في الحد من غلبة العلويين في الساحل، الأمر الذي يفتح أمام اللاذقية، وعلى ضوء الجحيم الذي تعيشه سورية والذي لا تزال اللاذقية إلى حدٍّ كبير في منأى عن ناره، أحد طريقين: إما الاتّعاظ ممّا جرى في بقية المناطق، ولا سيما المختلطة مذهبيّاً مثل حمص، وبالتالي تكريس حياة مشتركة، أو العجز عن مقاومة تيار الكراهية المتصاعد والدخول في أتون صراع سيكون إذا حصل كارثة فعلية على الجميع، نظراً إلى وجود تنوّع مذهبي في اللاذقية شبيه بالتنوع في مدينة حمص، ولكنه أشد فتكاً، ذلك لأن اللاذقية هي مسقط رأس الرئيس السوري، بشار الأسد، وكبار قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية". ويضيف: "من المتوقع أن يكون رد فعل العلويين في اللاذقية عنيفاً للغاية، لأنهم ينظرون إلى مدن الساحل على أنها موطنهم، ما يجعل قتالهم فيها قضية حياة أو موت".
وحين تتوافر وسائل القتال، فإنه من المرجح جداً أن تشهد اللاذقية أعنف قتال تشهده سورية في الصراع الدائر منذ حوالي أكثر من ثلاث سنوات. لكن شعبو يشير إلى ظاهرة إيجابية في اللاذقية، وتتمثل في أنه بعد مقتل أحد مشايخ العلويين، وعرض صوره بطريقة استفزازية، وخطف عشرات النساء والأطفال، لم تحدث ردة فعل طائفية، ولم يجر مثلاً خطف متبادل كما سبق أن جرى في حمص.
من جهته، يعتبر المعارض السوري المستقل، منير شحود، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تغييراً جوهرياً حصل في الطائفة العلوية، إذ توصلت إلى نتيجة مفادها أنه ليس هناك نصر في هذه الحرب، ويجب أن يكون هناك حل سياسي لها". ويرى شحود أن "النظام السوري ما زال مسيطراً على الطائفة العلوية، والأسباب كثيرة لذلك، لكن ثمة تغييراً حصل داخل الطائفة ويجب الاهتمام به"، حسب تعبيره.