لا شيء يسير في سورية على ما يرام. يعيش المواطنون يوماً بيوم، غير مدركين ما ستحمله لهم الساعات المقبلة، جراء تسارع الانهيار الاقتصادي، خصوصاً بعد الهبوط غير المسبوق في قيمة العملة السورية أمام العملات الأجنبية (تخطت قيمة الدولار الواحد الـ 3500 ليرة). وتزداد مؤشرات الغليان الشعبي لتشير إلى انفجار وشيك للجوع، بعد أن بلغ الوضع الاقتصادي والمعيشي للسوريين مستوى غير مسبوق من التدني، فيما أخذ الفقر يتمكن منهم أكثر فأكثر من أقصى جنوب البلاد إلى أقصى شمالها، على اختلاف المناطق والتوزع الجغرافي، واختلاف السلطات التي تدير كل بقعة جغرافية، سواء كانت تحت سيطرة النظام أو المعارضة أو "الإدارة الذاتية" الكردية. في موازاة ذلك، يعيش النظام السوري حالة قلق وارتباك متزايدة، انعكست في الإجراءات الأمنية التي اتخذها في مناطق سيطرته، خصوصاً بعد التظاهرات التي شهدتها محافظة السويداء خلال اليومين الماضيين، والتي رأى فيها البعض أنها قد تشكل بداية لثورة جديدة، أو تجدد للثورة، لا سيما أنّ التململ الشعبي لم يعد يخرج همساً، بل علناً حتى في العاصمة السورية دمشق. وقد جاءت الشائعات التي انتشرت أخيراً، خصوصاً المرتبطة بتخلي روسيا عن رئيس النظام بشار الأسد، فضلاً عن خلافات عائلتي الأسد ومخلوف، لتعزز حالة التوجس من المجهول.
وأظهرت احتجاجات السويداء، التي بدأها عدد من أبناء المحافظة أول من أمس الأحد، واستمرت أمس الاثنين، بوادر انفجار اجتماعي جديد بسبب سوء الوضع الاقتصادي في سورية والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام تحديداً، وتردي الأحوال المعيشية للمواطنين على اختلاف توجهاتهم السياسية، سواء من المؤيدين أو المعارضين للنظام. وبينما خرج المتظاهرون في السويداء، للتنديد بالأحوال التي تمرّ بها البلاد بسبب سوء إدارة النظام للبلاد وتحكمه بها، إلا أنهم رفعوا شعارات الثورة الأولى، المطالبة بإسقاط النظام ورئيسه بشار الأسد، وهتفوا كذلك للمحافظات والمدن السورية الثائرة ضدّ النظام، لإظهار تبعية الحراك إلى الثورة السورية وتجنيبه توصيف ثورة الجياع.
وفي السياق، قالت مصادر من مدينة السويداء لـ"العربي الجديد"، إنّ النظام أرسل تعزيزات أمنية إلى المدينة لحماية مبنى المحافظة الذي تجمّع حوله المتظاهرون، فيما توافد عدد من مسؤولي النظام إلى السويداء واجتمعوا داخل مبنى المحافظة، ليجروا بعد ذلك اتصالات مع وجهاء ورجال دين من طائفة الموحدين الدروز وناشطين، في محاولة لوأد الحراك في بدايته بطرق سلمية، مع التلويح بخيارات أخرى بطرق غير مباشرة.
وأظهرت الأيام الأخيرة بوضوح حالة العوز التي يعيشها السوريون في ظلّ تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد، لأسباب لا يمكن إرجاعها إلا لتعنت النظام الحالي وبقائه في السلطة وعدم انصياعه للحلول السياسية المتعددة المطروحة أمامه. وزاد من سوء الوضع، المشكلات والاضرابات داخل الهيكل الرئيسي لبنية النظام بشأن ملفات اقتصادية ومالية، في حين تسبب الانهيار اليومي لليرة السورية أمام العملات الأجنبية وفقدانها قيمتها الشرائية، في موجة غلاء وارتفاع كبير في الأسعار، أصابت السلع الأساسية وفي مقدمتها الخبز والخضار، بالإضافة للأودية وحليب الأطفال، عدا عن المواد الأخرى التي لم يعد السوري يعير لها اهتماماً في هذه الأيام، كونها أصبحت من الكماليات والرفاهية كالفواكه مثلاً.
اقــرأ أيضاً
كل ذلك يحصل حتى قبل دخول "قانون قيصر" الأميركي والعقوبات المرتبطة به، حيز التنفيذ الفعلي في 17 يونيو/حزيران الحالي، إذ يُتوقع أن تعمّق ارتداداته من معاناة السوريين، الذين سيتأثرون حكماً بانهيار البنية المالية والاقتصادية للنظام، التي يركزها الأخير في قبضته بالعاصمة، والتي ستكون على رأس قائمة استهداف القانون. ودفعت التراكمات السياسية الأخيرة، المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، للإفصاح عن عرض أميركي قدم للأسد. وقال أمام منظمات وجالية سورية في الولايات المتحدة الأميركية، مساء أول من أمس الأحد: "نحن قدمنا للأسد طريقة للخروج من هذه الأزمة، إذا كان مهتماً بشعبه سيقبل العرض، ونحن على تواصل مستمر مع الروس ومع اللاعبين البارزين الآخرين، ومع المعارضة السورية التي يجب أن تبقى موحدة". وفي حين لم يوضح جيفري شروط العرض، إلا أنه ألمح إلى أهداف للسياسة الأميركية في سورية، من ضمنها تغيير سلوك النظام، وانسحاب إيران، وقيادة الأمم المتحدة للعملية السياسية.
"البلد كلها على الطوابير"
بالعودة للوضع المعيشي السيئ، فلا شكّ في أنّ المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، ولا سيما في دمشق ومحيطها والساحل وحماة وحمص والسويداء، هي أكثر المناطق تأثراً بحالة التردي الاقتصادي والمعيشي، حيث يشكل الموظفون في الدولة نسبة جيدة من السكان الذين يعيشون هناك، وتجد هذه الشريحة أن قيمة رواتبها باتت لا تكفيها سوى لتأمين الخبز ليومين أو ثلاثة، بعد موجة الغلاء الكبيرة التي طاولت أسعار السلع الغذائية والأساسيات. وفيما تعيش شريحة واسعة من الناس في تلك المناطق على التحويلات المالية التي ترسل لها من الخارج، إلا أنّ النظام بات يضيّق أيضاً على وسيلة الدخل هذه، بإغلاقه العديد من شركات الحوالات المالية، وفرضه قيودا على تلك التي أبقاها، بإجبارها على تسليم الحوالات المالية المرسلة بالعملات الأجنبية، بالعملة المحلية حصراً، وبالسعر الذي يحدده البنك المركزي للصرف (بحدود 700 ليرة)، والذي يقلّ عن سعر الصرف الحقيقي بأضعاف، في حين تتفشى البطالة بين صفوف العمال أو من تبقى من الشباب بعد أن هجر معظمهم تلك المناطق بسبب الملاحقة الأمنية واستدعائهم للخدمة الإلزامية.
وبدأت مدينة دمشق تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في حدة الانتقادات لأداء النظام نتيجة الوضع المتردي، إذ بدأ الناس يرفعون صوتهم المنتقد بشكل علني، إن كان في وسائل النقل العامة أو المقاهي وغيرها، في مشهد لم يكن مألوفاً في دمشق من قبل. في حين أنّ معظم أصحاب المحال التجارية أغلقوا محلاتهم بسبب الهبوط المتسارع لليرة الذي يعرضهم لخسارات متتالية.
وتقول حميدة العبد، وهي من سكان مدينة دمشق، إنّ "البلد كله يقف في طوابير؛ طوابير الخبز، وطوابير مادة الغاز المنزلي، وغيرها. وأخيراً أصبح الحصول على الدواء، إن وجد، يستلزم الوقوف في الدور". وتشير العبد، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنها تحتاج في الوقت الحالي إلى ما يقارب خمسين ألف ليرة كثمن لأدويتها في الشهر، هذا إن وجدت، وسط نقص حاد في أدوية الأمراض المزمنة كالضغط والسكري وغيرها. وتضيف خلال حديثها عن الوضع المعيشي في دمشق والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام: "العائلات التي يعتبر دخلها متوسطاً وليس منخفضاً، باتت تختصر الكثير من مستلزماتها، حتى أنها أصبحت تختصر وجبات الطعام الاعتيادية اليومية الثلاثة، في وجبتين أو وجبة في اليوم، مع ظلّ الغلاء الشديد". وجاءت تصريحات بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية والسياسية للأسد، أخيراً، والتي طالبت فيها المواطنين في مناطق سيطرة النظام بـ"الصبر والصمود"، لتزيد من حالة السخط على الأخير وحكومته، لا سيما من أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهم كثيرون، وفي ظلّ حالة الرفاهية التي يعيشها المسؤولون داخل النظام وأبناؤهم. وقالت شعبان: "علينا أن نكون متوازنين لا نخاف ولا نخشى، لكن ألا نهمل مواجهة هذه العقوبات (في إشارة للعقوبات الأميركية)، وهذا ليس بالأمر السهل، ولكن لا خيار لنا سوى الصبر والصمود، وهذا الصمود سيؤتي أكله قريباً".
"الحياة عادت ثلاثين عاماً إلى الوراء"
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للمناطق الخاضعة لسيطرة "الإدارة الذاتية" و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) شرقي البلاد، إذ تتعطل الحركة الاقتصادية شيئاً فشيئاً مع تأثر المنطقة بموجة الغلاء والتردي المعيشي التي تجتاح البلاد، فيما يقارب حجم الرواتب والدخول التي تصرفها الإدارة الذاتية للموظفين في قطاعات مختلفة، مع تلك التي يتقاضاها نظراؤهم في مناطق النظام. وما بات يؤرق الناس في مناطق الإدارة الذاتية كذلك، هو قضية الحرائق المفتعلة للأراضي والمحاصيل الاستراتيجية من القمح والشعير، ما يهدد اقتصاد المنطقة التي تعدّ السلة الغذائية للبلاد. ويشير ريزان كنو، وهو تاجر من أبناء مدينة القامشلي، إلى أنّ "دورة الحياة عادت أكثر من 30 عاماً إلى الوراء"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "باستثناء الخضار، فإنّ المواد التموينية الأخرى باتت أشبه بالحلم بالنسبة للكثيرين، ولا سيما محدودي ومعدومي الدخل". ويضيف: "منذ شهر والحركة التجارية في تراجع، حتى باتت حركة البيع والشراء ضعيفة جداً في الأيام الأخيرة. الأسواق خاوية من الناس، ولا شكّ في أننا مقبلون على العودة لأكثر من ثلاثين عاماً إلى وراء، بالعيش على ما تنتجه الأرض من خضار، والاستغناء عن الحاجيات الأخرى".
أما في إدلب والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بريف حلب الشمالي، فإن الاكتظاظ السكاني جراء موجات النزوح الأخيرة، يضاعف من تبعات الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد. ففي إدلب و"منطقة خفض التصعيد" بمفردها، يعيش حوالي 3.5 ملايين نسمة على الأقل، وهؤلاء من سكان المنطقة أو المهجرين إليها من محافظات مختلفة خلال الأعوام الثلاثة الماضية. هذا فضلاً عن النازحين من جنوب وشرق محافظة إدلب باتجاه المناطق الوسطى والشمالية منها، حيث يعيش النازحون والمهجرون أوضاعاً مأساوية في المخيمات أو أماكن النزوح، فلا دخل ولا عمل، وحتى إن وجد، فمردوده لا يكفي لتأمين مستلزمات المعيشة بحدها الأدنى. وتبلغ أجرة العامل اليومية في إدلب، ضمن حدودها الوسطى، حوالي 2500 ليرة سورية، أي ما يعادل أقل من دولار واحد بحسب سعر الصرف الحالي، في حين بلغ ثمن ربطة الخبز أخيراً 600 ليرة، في سعر قابل للارتفاع في الأيام المقبلة، وفق ما توحي به المؤشرات. وتحتاج العائلة متوسطة العدد إلى حوالي ربطتين ونصف الربطة من الخبر في اليوم، وهو ما يذهب بأكثر من نصف الأجر اليومي للعامل، هذا إن وجد، لتسديد ثمن الخبز.
ويقول أحمد طعمة، وهو ناشط مدني ونازح من مدينة معرة النعمان إلى مدينة إدلب، إنّ "أكثر من 75 في المائة من سكان مدينة إدلب حالياً هم من النازحين، وهؤلاء يدفعون ما متوسطه 75 دولاراً في الشهر بدل إيجار المنزل، ويجدون أنفسهم مطالبين بتأمين المستلزمات الأخرى من طعام وحاجيات، على الرغم من أن ما يصل إلى 95 في المائة منهم من دون عمل أو دخل". ويضيف: "كما أنّ معظم الناس من سكان ومهجرين ونازحين، بات يؤرقهم الغلاء والعوز، فأسعار اشتراكات الكهرباء والماء والاتصالات باتت مرتفعة جداً، واللحوم بأنواعها كافة أصبحت من الماضي، ناهيك عن حالة الفقر والعوز التي تضرب المخيمات وآلاف المهجرين الذين يسكنونها، وهؤلاء أوضاعهم معروفة للقاصي والداني". ولا تساعد السلطات المتحكمة في هذه المناطق؛ سواء كانت "حكومة الإنقاذ" أو "الحكومة المؤقتة"، في إيجاد حلول للناس للخروج من هذا الواقع، ولا سيما بفرض التعامل بغير الليرة السورية، ما قد يخفف من وطأة الأزمة الحالية، أو خلق فرص للعمل من خلال دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة بالتعاون مع منظمات دولية أو إقليمية، وسط انشغالها بالصراعات على السيطرة والنفوذ.
وكشف تقرير أممي صدر في مارس/آذار من العام الماضي، أنّ أكثر من 80 في المائة من السوريين باتوا تحت خط الفقر، فيما توحي المؤشرات الحالية بأنّ هذا الرقم زاد عن ذلك، مع تدني قيمة العملة وتراجع المداخيل وازدياد حركات النزوح، التي ارتفعت وتيرتها منذ ذلك التاريخ، وتحديداً مع بدء الهجمات من قبل النظام وحلفائه على إدلب ومحيطها.
وانخفضت قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية بشكل كبير خلال الأيام الأخيرة، ولا سيما مع تصاعد وتيرة الخلاف بين رجل الأعمال المتحكم في الاقتصاد السوري رامي مخلوف، وابن عمته بشار الأسد. إلا أنها شهدت انخفاضاً حاداً بعد احتجاجات السويداء، إذ وصل سعر الصرف إلى حدود أكثر من 3500 ليرة مقابل الدولار الواحد، بانخفاض ألف ليرة عن يوم السبت الماضي (2400- 2500)، فيما يُتوقع أن يزداد الانخفاض بقيمة العملة المحلية في الأيام المقبلة، ولا سيما عند دخول قانون "قيصر" حيّز التنفيذ، مما سيفاقم من الأزمة الحالية ويهدد البلاد بمجاعة كبيرة، على الرغم من كل الثروات التي تمتلكها والتي وضعها الأسد بين أيدي حلفائه الروس والإيرانيين، مقابل دعمه في حربه ضدّ السوريين.
اقــرأ أيضاً
وأظهرت احتجاجات السويداء، التي بدأها عدد من أبناء المحافظة أول من أمس الأحد، واستمرت أمس الاثنين، بوادر انفجار اجتماعي جديد بسبب سوء الوضع الاقتصادي في سورية والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام تحديداً، وتردي الأحوال المعيشية للمواطنين على اختلاف توجهاتهم السياسية، سواء من المؤيدين أو المعارضين للنظام. وبينما خرج المتظاهرون في السويداء، للتنديد بالأحوال التي تمرّ بها البلاد بسبب سوء إدارة النظام للبلاد وتحكمه بها، إلا أنهم رفعوا شعارات الثورة الأولى، المطالبة بإسقاط النظام ورئيسه بشار الأسد، وهتفوا كذلك للمحافظات والمدن السورية الثائرة ضدّ النظام، لإظهار تبعية الحراك إلى الثورة السورية وتجنيبه توصيف ثورة الجياع.
وفي السياق، قالت مصادر من مدينة السويداء لـ"العربي الجديد"، إنّ النظام أرسل تعزيزات أمنية إلى المدينة لحماية مبنى المحافظة الذي تجمّع حوله المتظاهرون، فيما توافد عدد من مسؤولي النظام إلى السويداء واجتمعوا داخل مبنى المحافظة، ليجروا بعد ذلك اتصالات مع وجهاء ورجال دين من طائفة الموحدين الدروز وناشطين، في محاولة لوأد الحراك في بدايته بطرق سلمية، مع التلويح بخيارات أخرى بطرق غير مباشرة.
وأظهرت الأيام الأخيرة بوضوح حالة العوز التي يعيشها السوريون في ظلّ تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد، لأسباب لا يمكن إرجاعها إلا لتعنت النظام الحالي وبقائه في السلطة وعدم انصياعه للحلول السياسية المتعددة المطروحة أمامه. وزاد من سوء الوضع، المشكلات والاضرابات داخل الهيكل الرئيسي لبنية النظام بشأن ملفات اقتصادية ومالية، في حين تسبب الانهيار اليومي لليرة السورية أمام العملات الأجنبية وفقدانها قيمتها الشرائية، في موجة غلاء وارتفاع كبير في الأسعار، أصابت السلع الأساسية وفي مقدمتها الخبز والخضار، بالإضافة للأودية وحليب الأطفال، عدا عن المواد الأخرى التي لم يعد السوري يعير لها اهتماماً في هذه الأيام، كونها أصبحت من الكماليات والرفاهية كالفواكه مثلاً.
كل ذلك يحصل حتى قبل دخول "قانون قيصر" الأميركي والعقوبات المرتبطة به، حيز التنفيذ الفعلي في 17 يونيو/حزيران الحالي، إذ يُتوقع أن تعمّق ارتداداته من معاناة السوريين، الذين سيتأثرون حكماً بانهيار البنية المالية والاقتصادية للنظام، التي يركزها الأخير في قبضته بالعاصمة، والتي ستكون على رأس قائمة استهداف القانون. ودفعت التراكمات السياسية الأخيرة، المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، للإفصاح عن عرض أميركي قدم للأسد. وقال أمام منظمات وجالية سورية في الولايات المتحدة الأميركية، مساء أول من أمس الأحد: "نحن قدمنا للأسد طريقة للخروج من هذه الأزمة، إذا كان مهتماً بشعبه سيقبل العرض، ونحن على تواصل مستمر مع الروس ومع اللاعبين البارزين الآخرين، ومع المعارضة السورية التي يجب أن تبقى موحدة". وفي حين لم يوضح جيفري شروط العرض، إلا أنه ألمح إلى أهداف للسياسة الأميركية في سورية، من ضمنها تغيير سلوك النظام، وانسحاب إيران، وقيادة الأمم المتحدة للعملية السياسية.
"البلد كلها على الطوابير"
بالعودة للوضع المعيشي السيئ، فلا شكّ في أنّ المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، ولا سيما في دمشق ومحيطها والساحل وحماة وحمص والسويداء، هي أكثر المناطق تأثراً بحالة التردي الاقتصادي والمعيشي، حيث يشكل الموظفون في الدولة نسبة جيدة من السكان الذين يعيشون هناك، وتجد هذه الشريحة أن قيمة رواتبها باتت لا تكفيها سوى لتأمين الخبز ليومين أو ثلاثة، بعد موجة الغلاء الكبيرة التي طاولت أسعار السلع الغذائية والأساسيات. وفيما تعيش شريحة واسعة من الناس في تلك المناطق على التحويلات المالية التي ترسل لها من الخارج، إلا أنّ النظام بات يضيّق أيضاً على وسيلة الدخل هذه، بإغلاقه العديد من شركات الحوالات المالية، وفرضه قيودا على تلك التي أبقاها، بإجبارها على تسليم الحوالات المالية المرسلة بالعملات الأجنبية، بالعملة المحلية حصراً، وبالسعر الذي يحدده البنك المركزي للصرف (بحدود 700 ليرة)، والذي يقلّ عن سعر الصرف الحقيقي بأضعاف، في حين تتفشى البطالة بين صفوف العمال أو من تبقى من الشباب بعد أن هجر معظمهم تلك المناطق بسبب الملاحقة الأمنية واستدعائهم للخدمة الإلزامية.
وبدأت مدينة دمشق تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في حدة الانتقادات لأداء النظام نتيجة الوضع المتردي، إذ بدأ الناس يرفعون صوتهم المنتقد بشكل علني، إن كان في وسائل النقل العامة أو المقاهي وغيرها، في مشهد لم يكن مألوفاً في دمشق من قبل. في حين أنّ معظم أصحاب المحال التجارية أغلقوا محلاتهم بسبب الهبوط المتسارع لليرة الذي يعرضهم لخسارات متتالية.
وتقول حميدة العبد، وهي من سكان مدينة دمشق، إنّ "البلد كله يقف في طوابير؛ طوابير الخبز، وطوابير مادة الغاز المنزلي، وغيرها. وأخيراً أصبح الحصول على الدواء، إن وجد، يستلزم الوقوف في الدور". وتشير العبد، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنها تحتاج في الوقت الحالي إلى ما يقارب خمسين ألف ليرة كثمن لأدويتها في الشهر، هذا إن وجدت، وسط نقص حاد في أدوية الأمراض المزمنة كالضغط والسكري وغيرها. وتضيف خلال حديثها عن الوضع المعيشي في دمشق والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام: "العائلات التي يعتبر دخلها متوسطاً وليس منخفضاً، باتت تختصر الكثير من مستلزماتها، حتى أنها أصبحت تختصر وجبات الطعام الاعتيادية اليومية الثلاثة، في وجبتين أو وجبة في اليوم، مع ظلّ الغلاء الشديد". وجاءت تصريحات بثينة شعبان، المستشارة الإعلامية والسياسية للأسد، أخيراً، والتي طالبت فيها المواطنين في مناطق سيطرة النظام بـ"الصبر والصمود"، لتزيد من حالة السخط على الأخير وحكومته، لا سيما من أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهم كثيرون، وفي ظلّ حالة الرفاهية التي يعيشها المسؤولون داخل النظام وأبناؤهم. وقالت شعبان: "علينا أن نكون متوازنين لا نخاف ولا نخشى، لكن ألا نهمل مواجهة هذه العقوبات (في إشارة للعقوبات الأميركية)، وهذا ليس بالأمر السهل، ولكن لا خيار لنا سوى الصبر والصمود، وهذا الصمود سيؤتي أكله قريباً".
"الحياة عادت ثلاثين عاماً إلى الوراء"
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للمناطق الخاضعة لسيطرة "الإدارة الذاتية" و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) شرقي البلاد، إذ تتعطل الحركة الاقتصادية شيئاً فشيئاً مع تأثر المنطقة بموجة الغلاء والتردي المعيشي التي تجتاح البلاد، فيما يقارب حجم الرواتب والدخول التي تصرفها الإدارة الذاتية للموظفين في قطاعات مختلفة، مع تلك التي يتقاضاها نظراؤهم في مناطق النظام. وما بات يؤرق الناس في مناطق الإدارة الذاتية كذلك، هو قضية الحرائق المفتعلة للأراضي والمحاصيل الاستراتيجية من القمح والشعير، ما يهدد اقتصاد المنطقة التي تعدّ السلة الغذائية للبلاد. ويشير ريزان كنو، وهو تاجر من أبناء مدينة القامشلي، إلى أنّ "دورة الحياة عادت أكثر من 30 عاماً إلى الوراء"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "باستثناء الخضار، فإنّ المواد التموينية الأخرى باتت أشبه بالحلم بالنسبة للكثيرين، ولا سيما محدودي ومعدومي الدخل". ويضيف: "منذ شهر والحركة التجارية في تراجع، حتى باتت حركة البيع والشراء ضعيفة جداً في الأيام الأخيرة. الأسواق خاوية من الناس، ولا شكّ في أننا مقبلون على العودة لأكثر من ثلاثين عاماً إلى وراء، بالعيش على ما تنتجه الأرض من خضار، والاستغناء عن الحاجيات الأخرى".
أما في إدلب والمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بريف حلب الشمالي، فإن الاكتظاظ السكاني جراء موجات النزوح الأخيرة، يضاعف من تبعات الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد. ففي إدلب و"منطقة خفض التصعيد" بمفردها، يعيش حوالي 3.5 ملايين نسمة على الأقل، وهؤلاء من سكان المنطقة أو المهجرين إليها من محافظات مختلفة خلال الأعوام الثلاثة الماضية. هذا فضلاً عن النازحين من جنوب وشرق محافظة إدلب باتجاه المناطق الوسطى والشمالية منها، حيث يعيش النازحون والمهجرون أوضاعاً مأساوية في المخيمات أو أماكن النزوح، فلا دخل ولا عمل، وحتى إن وجد، فمردوده لا يكفي لتأمين مستلزمات المعيشة بحدها الأدنى. وتبلغ أجرة العامل اليومية في إدلب، ضمن حدودها الوسطى، حوالي 2500 ليرة سورية، أي ما يعادل أقل من دولار واحد بحسب سعر الصرف الحالي، في حين بلغ ثمن ربطة الخبز أخيراً 600 ليرة، في سعر قابل للارتفاع في الأيام المقبلة، وفق ما توحي به المؤشرات. وتحتاج العائلة متوسطة العدد إلى حوالي ربطتين ونصف الربطة من الخبر في اليوم، وهو ما يذهب بأكثر من نصف الأجر اليومي للعامل، هذا إن وجد، لتسديد ثمن الخبز.
ويقول أحمد طعمة، وهو ناشط مدني ونازح من مدينة معرة النعمان إلى مدينة إدلب، إنّ "أكثر من 75 في المائة من سكان مدينة إدلب حالياً هم من النازحين، وهؤلاء يدفعون ما متوسطه 75 دولاراً في الشهر بدل إيجار المنزل، ويجدون أنفسهم مطالبين بتأمين المستلزمات الأخرى من طعام وحاجيات، على الرغم من أن ما يصل إلى 95 في المائة منهم من دون عمل أو دخل". ويضيف: "كما أنّ معظم الناس من سكان ومهجرين ونازحين، بات يؤرقهم الغلاء والعوز، فأسعار اشتراكات الكهرباء والماء والاتصالات باتت مرتفعة جداً، واللحوم بأنواعها كافة أصبحت من الماضي، ناهيك عن حالة الفقر والعوز التي تضرب المخيمات وآلاف المهجرين الذين يسكنونها، وهؤلاء أوضاعهم معروفة للقاصي والداني". ولا تساعد السلطات المتحكمة في هذه المناطق؛ سواء كانت "حكومة الإنقاذ" أو "الحكومة المؤقتة"، في إيجاد حلول للناس للخروج من هذا الواقع، ولا سيما بفرض التعامل بغير الليرة السورية، ما قد يخفف من وطأة الأزمة الحالية، أو خلق فرص للعمل من خلال دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة بالتعاون مع منظمات دولية أو إقليمية، وسط انشغالها بالصراعات على السيطرة والنفوذ.
وكشف تقرير أممي صدر في مارس/آذار من العام الماضي، أنّ أكثر من 80 في المائة من السوريين باتوا تحت خط الفقر، فيما توحي المؤشرات الحالية بأنّ هذا الرقم زاد عن ذلك، مع تدني قيمة العملة وتراجع المداخيل وازدياد حركات النزوح، التي ارتفعت وتيرتها منذ ذلك التاريخ، وتحديداً مع بدء الهجمات من قبل النظام وحلفائه على إدلب ومحيطها.
وانخفضت قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية بشكل كبير خلال الأيام الأخيرة، ولا سيما مع تصاعد وتيرة الخلاف بين رجل الأعمال المتحكم في الاقتصاد السوري رامي مخلوف، وابن عمته بشار الأسد. إلا أنها شهدت انخفاضاً حاداً بعد احتجاجات السويداء، إذ وصل سعر الصرف إلى حدود أكثر من 3500 ليرة مقابل الدولار الواحد، بانخفاض ألف ليرة عن يوم السبت الماضي (2400- 2500)، فيما يُتوقع أن يزداد الانخفاض بقيمة العملة المحلية في الأيام المقبلة، ولا سيما عند دخول قانون "قيصر" حيّز التنفيذ، مما سيفاقم من الأزمة الحالية ويهدد البلاد بمجاعة كبيرة، على الرغم من كل الثروات التي تمتلكها والتي وضعها الأسد بين أيدي حلفائه الروس والإيرانيين، مقابل دعمه في حربه ضدّ السوريين.