28 أكتوبر 2024
سورية: دستور وانتخابات في غياب بيئة آمنة
تشكل البيئة السياسية والقانونية المحايدة شرطا رئيسا للانتقال من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي، فمن دون وجود حيز سياسي عام، أو مجال سياسي تداولي محكوم بقواعد العمل، لن يكون للدستور أو الانتخابات أي معنى، بل على العكس سيعاد إنتاج الاستبداد عبر آليات ديمقراطية شكلية. وأهمية البيئة المحايدة ليست مقتصرة في أثناء عملية إنتاج الحكم (الانتخابات)، بل أهميتها قبل ذلك بكثير، ففيها تتم صناعة القوى السياسية المناط بها خوض العملية السياسية لاحقا. ولقد بينت تجارب تاريخية عدة أن بعض الأنظمة الاستبدادية تقبل قواعد اللعبة الديمقراطية، ولكنها في المقابل لا توفر البيئة المحايدة، فينتج عن ذلك فشل المعارضة مع أول استحقاق انتخابي.
على سبيل المثال، فاجأ رئيس ساحل العاج، فيليكس هوفويه بوانيي، المعارضة عام 1990 بإذعانه لمطالبها بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مفتوحة، وفتح الباب لجميع من يرغبون في الانتخابات المقبلة. وعلى الرغم من انعدام أي نشاط للمعارضة منذ ثلاثين عاما، قوبلت طلبات المعارضة بوقت إضافي لتنظيم نفسها بالرفض القاطع، على أساس أن المعارضة ذاتها هي التي طالبت بانتخابات فورية.
الانتخابات وحدها لا تؤدي بالضرورة إلى نظام ديمقراطي متنام ومستدام، فدول كثيرة تجري
انتخابات دورية، لكنها ليست سوى ديمقراطيات انتخابية، أي أن الظاهرة الديمقراطية تتجسّد فقط في أثناء الانتخابات، أما حالة البلاد قبلها وبعدها فتنعدم فيها الحريات السياسية والمدنية، مع ضعف واضح في المنظومة القانونية كمنظومة محايدة.
في كتابه الهام "الديمقراطية والتحول الديمقراطي"، يقدم أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة أرهوس في الدنمارك، غيورغ سورنسن، حصادا كاملا لكل الدول الواقعة بين الديمقراطية الكاملة والاستبداد الكامل، وهي كثيرة. وبناء على دراسات معمقة لمجمل التجارب المعاصرة، توصل المؤلف إلى أن الانتخابات في هذه الدول ليست جذّابة من الناحية الديمقراطية، فحتى الأنظمة الأبشع استبدادا تُجري انتخابات دورية، مثل الاتحاد السوفييتي سابقا وكوريا الشمالية، مثلا. وأكد أن هذه الدول ما تزال منذ سنوات طويلة في حالة ستاتيكو سياسي، ومفتقدة للتعددية والمنافسة الحرّة، وهي أقرب في بنيتها وسلوكها إلى الأنظمة الاستبدادية، ولا تختلف عنها إلا في إجرائها انتخابات شكلية.
وقد اعتبرت الأكاديمية الأميركية، تيري لن كارل، إجراء انتخابات حرّة ونزيهة على أساس حق الاقتراع الشامل المدخل الرئيس الذي يحدّد حدوث تحول نوعي في قواعد اللعبة السياسية، لكنها تضيف أن هذه الانتخابات في أغلب التجارب لا تنهي المرحلة الانتقالية، لأن احتمال الارتداد إلى حكم الفرد يبقى قائما، فالانتخابات، في حد ذاتها، لا تضمن مطلقا رسوخ النظام الديمقراطي.
التجربة السورية الأكثر حدة من التجارب العالمية الأخرى مرشحة لاتخاذ مسار الدول ذات الديمقراطية الانتخابية نفسه، إذا انتهت الأزمة بمجرد دستور وانتخابات، إن لم يكن أسوأ، وسيعاد إنتاج منظومة الحكم التسلطية، ولكن وفق قواعد جديدة، فمن المستحيل تحقيق البيئة الآمنة في سورية، طالما أن النظام لا يشعر بتهديد حقيقي يدفعه إلى القبول بالتغيير الفعلي، لأن الأنظمة الاستبدادية لا تُقدم على التغيير إلا إذا شعرت بوجود تهديد حقيقي، وطالما أن النظام السوري لا يخضع لضغوط قوية، ستبقى قبضته العسكرية ـ الأمنية جاثمةً على المجتمع، وستصبح العملية الانتخابية بمثابة انتخاب الموت أو الحياة.
تركيبة النظام تجعل من الصعب الوصول إلى بيئة آمنة عبر بوابة الدستور، ولهذا أصر النظام على ضرورة إلغاء المرحلة الأولى (الحكم) في العملية الانتقالية الواردة في قرار مجلس الأمن 2245، لأن البدء بالحكم يعني تقاسم السلطة مناصفة، وهنا سينقسم نظام الحكم بين معارضة مفتوحة على العمل الديمقراطي وتقوم به ونظام مغلق يضع العراقيل.
إجراء العملية الانتخابية في بيئة غير محايدة يعني أن جميع السوريين في الداخل سيعيدون تجربة عام 2014، أي التصويت للأسد، بعدما اخترق الخوف وجدان الناس ووعيهم، نتيجة عمليات
الإقصاء الدموي التي نفذها النظام ضد المعارضين. وقد انتقل النظام في علاقته مع المجتمع، من مرحلة الهيمنة والاستيلاء إلى مرحلة الاستلاب. ووفقا لماركس، يوجد الاستلاب مع سؤال التشوهات ومختلف السبل الملتوية التي تتدخل في النظرة إلى العالم الاجتماعي التي يتخذها الفاعلون... وليس الاستلاب، إذن، سوى تبديل ناتج النشاط الإنساني والاجتماعي في ظروف تاريخية معينة، وتحويل خصائص الإنسان وقدراته إلى شيء مستقل عنها ومتسلط عليه، وتشويه علاقاتها الفعلية في الحياة في أذهان الناس.
وفي مجتمع مستلب كالمجتمع السوري، لا مكان للحديث عن أي نظام سياسي جديد في ظل بقاء الأوليغارشية الحاكمة، ويصبح الدستور الجديد والانتخابات المكان الخاطئ للانطلاق في بدء عملية التحول الديمقراطي في دولةٍ تمزقها الصراعات.
الانتخابات وحدها لا تؤدي بالضرورة إلى نظام ديمقراطي متنام ومستدام، فدول كثيرة تجري
في كتابه الهام "الديمقراطية والتحول الديمقراطي"، يقدم أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة أرهوس في الدنمارك، غيورغ سورنسن، حصادا كاملا لكل الدول الواقعة بين الديمقراطية الكاملة والاستبداد الكامل، وهي كثيرة. وبناء على دراسات معمقة لمجمل التجارب المعاصرة، توصل المؤلف إلى أن الانتخابات في هذه الدول ليست جذّابة من الناحية الديمقراطية، فحتى الأنظمة الأبشع استبدادا تُجري انتخابات دورية، مثل الاتحاد السوفييتي سابقا وكوريا الشمالية، مثلا. وأكد أن هذه الدول ما تزال منذ سنوات طويلة في حالة ستاتيكو سياسي، ومفتقدة للتعددية والمنافسة الحرّة، وهي أقرب في بنيتها وسلوكها إلى الأنظمة الاستبدادية، ولا تختلف عنها إلا في إجرائها انتخابات شكلية.
وقد اعتبرت الأكاديمية الأميركية، تيري لن كارل، إجراء انتخابات حرّة ونزيهة على أساس حق الاقتراع الشامل المدخل الرئيس الذي يحدّد حدوث تحول نوعي في قواعد اللعبة السياسية، لكنها تضيف أن هذه الانتخابات في أغلب التجارب لا تنهي المرحلة الانتقالية، لأن احتمال الارتداد إلى حكم الفرد يبقى قائما، فالانتخابات، في حد ذاتها، لا تضمن مطلقا رسوخ النظام الديمقراطي.
التجربة السورية الأكثر حدة من التجارب العالمية الأخرى مرشحة لاتخاذ مسار الدول ذات الديمقراطية الانتخابية نفسه، إذا انتهت الأزمة بمجرد دستور وانتخابات، إن لم يكن أسوأ، وسيعاد إنتاج منظومة الحكم التسلطية، ولكن وفق قواعد جديدة، فمن المستحيل تحقيق البيئة الآمنة في سورية، طالما أن النظام لا يشعر بتهديد حقيقي يدفعه إلى القبول بالتغيير الفعلي، لأن الأنظمة الاستبدادية لا تُقدم على التغيير إلا إذا شعرت بوجود تهديد حقيقي، وطالما أن النظام السوري لا يخضع لضغوط قوية، ستبقى قبضته العسكرية ـ الأمنية جاثمةً على المجتمع، وستصبح العملية الانتخابية بمثابة انتخاب الموت أو الحياة.
تركيبة النظام تجعل من الصعب الوصول إلى بيئة آمنة عبر بوابة الدستور، ولهذا أصر النظام على ضرورة إلغاء المرحلة الأولى (الحكم) في العملية الانتقالية الواردة في قرار مجلس الأمن 2245، لأن البدء بالحكم يعني تقاسم السلطة مناصفة، وهنا سينقسم نظام الحكم بين معارضة مفتوحة على العمل الديمقراطي وتقوم به ونظام مغلق يضع العراقيل.
إجراء العملية الانتخابية في بيئة غير محايدة يعني أن جميع السوريين في الداخل سيعيدون تجربة عام 2014، أي التصويت للأسد، بعدما اخترق الخوف وجدان الناس ووعيهم، نتيجة عمليات
وفي مجتمع مستلب كالمجتمع السوري، لا مكان للحديث عن أي نظام سياسي جديد في ظل بقاء الأوليغارشية الحاكمة، ويصبح الدستور الجديد والانتخابات المكان الخاطئ للانطلاق في بدء عملية التحول الديمقراطي في دولةٍ تمزقها الصراعات.