سورية... قصيدة قلبها على حجر

01 سبتمبر 2015
مهاجرون سوريون في إسبانيا (Getty)
+ الخط -


كان مساء يعج بالحنين، حنين موجع ومذعور، حنين هارب من بلاد تعيش الموت، ومن موت يعيش في كل زاوية فيها، هارب منها لكنه كعادة الحنين، كان يهرب أيضاً من بين أصابع المكان هنا، وبسرعة يغافله ويعود لتلك البلاد.



في مدريد، وفي شارع يسمى لابابييز، وفي مقهى على زاوية، كانوا ستة أصوات قادمة من ستة بلاد بحت أصواتها وكانت هي هذه الشاعرة السورية الطاعنة بالقهر من بينهم، كانوا ستة مدعوين لتقديم شعر قادم من بلاد الحروب، شعر وموسيقى قادمة أيضا من تلك البلاد.


كان bolo fernandoz الإنسان الإسباني الجميل هو المنظم لهذه الظاهرة، وكانت Sandra الفتاة اللاتينية صاحبة الفكرة، وبهذه الكلمات كانت بطاقة الدعوة:
"سنكون معكم، سنسمع أوجاعكم، سنتذوق معكم ما فعلته الحرب، سنتذوقها بأصواتكم، من خلال ما تقوله كلماتكم في مشهد تجربه الحرب، ومن خلال الأموات برصاصها، الساكنين الآن بأرضها، من خلال صمتهم، الذي يصل إلى كل العالم".


وبجسد يجر روحاً ممزقة وراءه ذهبت تلك الشاعرة السورية لتلك الأمسية، كان صعباً عليها أن تصدق أننا أصبحنا يوماً من بلاد الحروب، لكنها كانت تريد فقط لهذا العالم الأصم أن يسمع، ولو لليلة واحدة، حتى ولو كان الصوت قادماً من خلال صمت الجثث.
حين وصلت إلى هذا المقهى، كان الموجودون يحملون قلوباً شفافة، خائفة من حدة الصور، وأرواحاً وعيوناً تعرف الكثير عن الوجع السوري، تعرف أكثر مما تخيلت، لكنها لم تزل تسأل وتنتظر من القصيدة الحقيقية أن تجيب.


لقد عرفت إسبانيا الحرب الطويلة، ذاقتها كاملة، وبقي طعم الدم والتحدي صارخين في قصائد لوركا، وبين أشعار ماتشادو مثلما بقيا صارخين في لوحات غويا وفي الغرينيكا.
إن كل هذا جعل الإنسان الإسباني هنا يعرف ما الذي تعنيه الكلمة؛ ولذا شكلت القصيدة أحد ملامح هويته وتعامل معها دائما كحامل حقيقي للشعوب.


بدأت الأمسية بعزف على آلة لاتينيه نفخية مذهلة الصوت القادم، كأنه من كهوف الهنود الحمر، والحاملة في هذا الصوت أوجاع راحلين بلا أسماء. وبعدها قدم الشعراء قصائدهم المليئة بهواء يحوم حول الأموات يشرب صمتهم، ويشرب ما بقي من الأمهات على المناديل وبشموع لم تنم بعد. وحين قدمتها ساندرا على أنها شاعرة قادمة من سورية، وقفت العيون والقلوب على رؤوس أصابعها، مصغية متشوقة، مشدودة الروح، تتابع كل كلمة، وكانت تقف عند كل مقطع، تصفق بدهشة وفهم ووجع. كانت تلقي القصيدة أولاً بالعربية ثم تلقيها بالإسبانية، ولم تكن كلماتها تتوقع أبداً أن تلبس هذه الأجنحة كلها.


الدموع التي بدأت تتشكل في العيون المستمعة كانت حقيقية كالموت في بلدنا، كوجوهنا، كعدالة حقنا بالحياة والحرية، كعيون الشهيد، كصوت انكسار قلب والده وسقوطه قبله في تلك الحفرة، كالشرفات المثقوبة في شوارعنا وقصائدنا، كحجر بقي من بيت.


لم يعرف الحاضرون كيف يقولون للقصائد السورية تلك نحن معك، لكن وجوههم وصوتهم كانت تقول، صاروا يريدون أن يخبروها بكل شيء، صاروا يتكلمون عن فلسطين، ويحاول بعضهم أن يلقي لها ماذا كتب يوماً عن أطفال غزة، وآخر يسمعها أنه غنى يوما بالعربية وعن سورية، وصارت تعود بأصواتهم وكلماتهم إلى المرأة التي كانتها، والتي تركتها هناك، والتي كانت بعد كل شهيد تحف قلبها على حجر.


كانت تعتقد أنها حين تقول قصيدتها فإنها ستنقل للعالم صرخة كل طفل حين تحوم فوق رأسه الطائرات الحاملة للموت، لكنها لم تتخيل أنها وهي تعيد إلقاء هذا الوجع في قصيدتها، أن كل هذه الطائرات ستعود وتحلق بسماء روحي وتلقي براميلها علي، أنا المرأة التي تسكن في داخلها، والتي تركتها هناك تلقيها علي دفعة واحدة.

المساهمون