31 مايو 2017
سورية.. من صراع طبقي مقدّس إلى واقع مدنّس
عندما قامت الثورة السورية، بوصفها ثورة شعبية، تطالب بالحرية ضد نظام استبدادي، وبالحقوق السياسية الليبرالية الكاملة للمواطنة، والتي ستكون، حكماً، منقوصةً من حقّ المواطن "الحديث" في الحصول على المساواة الاقتصادية، حاول العديد من الطبقوييّن، عرب وأكاديميون غربيون يساريون، اختزالها على أنّها "صراع طبقيّ" مديد بين الريف والمدينة، بين قوّة العمل ورأس المال، واعتبروا الأخير حرباً ضروساً بين ممثلي التيار النيوليبرالي، بطبعته الفاشيّة، واليسار العائد منتقماً، في سرديّة يكون فيها هؤلاء اليساريون المبشِّرين بإنجيلها الخامس. تمّ المضي في هذا المنطق بشكل تعسفي، في افتراق فاقع عن الواقع، علما أنّ الحكاية السورية أعقد من ذلك بكثير. فالطبقات، بما هي تشكّلات بشريّة، لا تعيش في ملكوت النظريات المقدّسة، أو في الكتب الأكاديميّة. ويكفي أنّ يكون هنالك في مكان ما أبناء ريف يقاتلون سلطة مركزية مدينيّة، ليصرخ هؤلاء في وجه العالم: "هذا هو الصراع الطبقي"، بل إنّها، أي الطبقات، مشبّعة بواقعٍ مغرقٍ في تعقيدِه، وفي متغيّراته، المحدِّدة منها والمفارِقة.
ليست الطبقات مجرّد عمال وطغمة مالية، تعيش على أوراق الكتب. هناك، أيضا، بورجوازية كبيرة، مختلفة الأنواع والمراتب والأصول، إلى جانب بورجوازية صغيرة، مدينيّة أو ريفيّة وفلاحين وبروليتاريا رثّة. الطبقات بشر، رجال ونساء سوريون يمارسون حياتهم في بيئة أكثرية إسلاميّة سنّية، مكوّنة كذلك من إسلامات متعدّدة، شعبي، سلفيّ وغيره. وهناك سوريون آخرون يعيشون في بيئة أقليّة، إسلاميّة، غير سنيّة. ويعيش بشر الطبقات في أدغال من العقائد والأيديولوجيات المؤثرة لأحزاب قوميّة، عربية أو غير عربيّة، شيوعية أو ليبراليّة أو إسلاميّة، متفاوتة الثقل والتأثير، تتوزّع هنا وهناك، لتلعب أدواراً متباينة متضافرة، أو متواجهة المفاعيل. الطبقات في سورية تسبح منذ مارس/ آذار2011 في بحار من تدخّلاتٍ عسكرية وسياسات أجنبية معقّدة تتراوح من الدبلوماسيّ إلى الجاسوسي، وتتنفس هواءً موبوءا من الفبركات الإعلامية التي يواجهها إعلام عوامي، يسعى، إجمالا، إلى نقل الحقيقة.
الطبقات في سورية مكوّنة من بشر يتقاتلون عسكرياً، ولأسباب مختلفة، لا تتوافق بالضرورة فيما بينها، وهناك من هم مرتزقة، أو وافدون لدعم كل الأطراف بشكل غير متساوٍ. الواقع الطبقي هو أيضا واقع مؤامراتٍ تحاك ضد الثورة، ممن هم "فوق"، في مقابل ثوار يتحايلون على أوضاعهم عبر استراتِيجيّات من "تحت" مُواجِهة لها. الطبقات تركيباتٌ اجتماعيّة، تعيش النضال الثوري، في ظلّ علاقات دولية، تتغيّر من حولها على الدوام، مع أموال وعتاد عسكري وذخائر، يصدرها المشغّلون الدوليون إلى وكلائهم المعتمدين. الطبقات هي، صح وخطأ، أي هي ظروف مع تبعاتها، لقرارات صائبة، يتّخذها بشر، كما تعني أخطاء وخطايا قد يقترفها البشر، بالضبط، كما يفعل من يواجهونهم من سوريين وحلفاء إيرانيين وعراقيين وباكستانيين وأفغان ولبنانيين.
الطبقات هي مثقفون يملأون الأرض ضجيجا، بعوائدهم وأذواقهم المتنازعة، وبطقوسهم النخبوية التي ركِبَت أحصنة أوهامها المتنازعة حول مهماتهم التاريخيّة، وخيالاتها حول الآخر، ما ولّد ويولّد صراعات عنيفة بينهم، كلّ ذلك بينما ثلاثة ملايين من السوريين، المهجّرين بسبب القتال الدائر، لا يُسألون عن رأيهم في الجدالات الثقافية الحاصلة، في حين يدلي أصحاب الرأي وحدهم، ومن وراء ظهور العامة وباسمها، بالأحكام والتفضيلات والتصوّرات الوحيدة الموجودة حول مصائر العامة.
تأتي الطبقات مع عاهاتٍ نفسيةٍ واجتماعية، ناتجة عن الحرب والتهجير والفقر، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالدين والجنس. هي عوارض تفعل فعلها، كلّ لحظة، في ذوات أشخاص حقيقيين، يصارعون كلّ يوم، من أجل الصمود، قد يصمدون من خلال روح النكتة والضحك والتهكّم على الذات، وإظهار قدرة جبّارة على الثبات، على الرغم من الأهوال. الطبقات التي هي كلّ ما سبق، هي أيضًا شرائح من الناس، تعيش وسط سيادة القيادة الافتراضية لأتباع القديس "فيسبوك" المبجّل.
الطبقات هي مثقفون يملأون الأرض ضجيجا، بعوائدهم وأذواقهم المتنازعة، وبطقوسهم النخبوية التي ركِبَت أحصنة أوهامها المتنازعة حول مهماتهم التاريخيّة، وخيالاتها حول الآخر، ما ولّد ويولّد صراعات عنيفة بينهم، كلّ ذلك بينما ثلاثة ملايين من السوريين، المهجّرين بسبب القتال الدائر، لا يُسألون عن رأيهم في الجدالات الثقافية الحاصلة، في حين يدلي أصحاب الرأي وحدهم، ومن وراء ظهور العامة وباسمها، بالأحكام والتفضيلات والتصوّرات الوحيدة الموجودة حول مصائر العامة.
تأتي الطبقات مع عاهاتٍ نفسيةٍ واجتماعية، ناتجة عن الحرب والتهجير والفقر، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالدين والجنس. هي عوارض تفعل فعلها، كلّ لحظة، في ذوات أشخاص حقيقيين، يصارعون كلّ يوم، من أجل الصمود، قد يصمدون من خلال روح النكتة والضحك والتهكّم على الذات، وإظهار قدرة جبّارة على الثبات، على الرغم من الأهوال. الطبقات التي هي كلّ ما سبق، هي أيضًا شرائح من الناس، تعيش وسط سيادة القيادة الافتراضية لأتباع القديس "فيسبوك" المبجّل.
قد يختار بعضهم تسمية كلّ ذلك "صراعاً طبقياً"، مع الامتناع المتزامن عن فهم كيف يعمل الواقع الطبقي في كلّ ما سبق. وعلى الرغم من أنّه أصبح واضحا أنّ هنالك كثيراً من الطبقيّ الموجود في كلّ ما سبق، فإنّ تعسّف التفسير الطبقي على كلّ شيء ليس فيه كثير مما يعكس تنفّس الطبقات الحقيقية، الموجودة خارج أذهان الطبقاويين. علاوة على ذلك، هناك فارق حيوي بين فهم الواقع وتراكب الطبقي فيه من جهة، من أجل فهم، مثلاً، لماذا لم تكن الجماهير المقاتلة طاهرةً "طبقيّا"؟ وبين الضرورة الثورية، الآنيّة السياسيّة، المُمارَسية، والمتمثّلة في اتّخاذ قرار استراتيجي، لتظهير الهمّ الطبقي مجددا، بوصلة أساسية لقيادة الثورة، إلى برّ الأمان من جهة أخرى. والتشديد على العامل الطبقي لم يكن، يوماً، أمرًا نافلًا في أيّ ثورة، وهو في حالة الثورة السورية، حتمًا، لا يذوّب الجهد المبذول، إلى اليوم، كما تزعم الخلفية الليبراليّة لبعض المحلّلين. بل، على العكس، ربما أصبح من الحيوي، الآن، إدراج الأمر الطبقي في أواليات التفكير والعمل الثوريين، بعد دخول الثورة السورية عامها الثالث.
خطوة كهذه يجب أن يكون همّها إدخال أيديولوجيا عابرة للطوائف والأديان والإثنيات، أيديولوجيّا من شأنها الحدّ من تبعات الأسلمة الفائضة للأغلبية من الجماهير السورية المقاتلة، وفي الوقت عينه، تمكّن من الاستدلال بخطة عمل استباقيّة، واضحة المعالم، تَحول دون ما يُخطط أن تكون عليه سورية ما بعد الثورة، أي ملعبا ممتازا للرأسمال، بأجندة نيوليبرالية تحت عنوان "إعادة إعمار سورية": بلدٌ محطّمة اقتصاديا، منهكة اجتماعيا ونفسيّا مع 120 ألف قتيل على الأقلّ و1.5 مليون منزل مهدّم وسبعة ملايين إنسان تأثروا من جراء ذلك، بينهم ثلاثة ملايين مهجّر، فقد مليون منهم كلّ ما يملكونه، و"إعمار" يقدّر بأنّه سيكلّف أكثر من 200 مليار دولار، لو توقفت الحرب قبل شهور، على مدى ربع قرن.
الهدف الذي أشرنا إليه، الثوري جدّا وعن حقّ، يتبناه تماماً الإنسان السوري الكادح، الذي سلبه نظامه حقوقه السياسيّة، والذي قد يخسر عمره، اليوم، في غمرة النضال العسكري. هذا الإنسان يفهم لامعقوليّة أن يناضل هو أو هي لاستعادة حقوقه/ها السياسيّة، فتستفيد من ذلك، في النهاية، طبقة من أصحاب الرساميل والمتنفّذين، سيحوّلون بلاده إلى باحةٍ خلفية للنيوليبرالية، ما سيعيد استعباد شعب كامل بأشكال أكثر "حضاريّة" و"حداثيّة" من ذي قبل. مفتاح منع ذلك هو فهم موقع الطبقات وعملها في سورية، الحالية، الحقيقية كما هي، من دون جعلها تحلّق فوق الواقع، ولكن، في الوقت عينه، هو ضرورة العمل على تظهير اتّجاه يساري في المتن السياسي الثوري، معادٍ للسياسات الرأسمالية التي تعدّها نخب تحاول مصادرة حقوق الجماهير السورية، ونضالها الرائع في مرحلة ما بعد الثورة.
خطوة كهذه يجب أن يكون همّها إدخال أيديولوجيا عابرة للطوائف والأديان والإثنيات، أيديولوجيّا من شأنها الحدّ من تبعات الأسلمة الفائضة للأغلبية من الجماهير السورية المقاتلة، وفي الوقت عينه، تمكّن من الاستدلال بخطة عمل استباقيّة، واضحة المعالم، تَحول دون ما يُخطط أن تكون عليه سورية ما بعد الثورة، أي ملعبا ممتازا للرأسمال، بأجندة نيوليبرالية تحت عنوان "إعادة إعمار سورية": بلدٌ محطّمة اقتصاديا، منهكة اجتماعيا ونفسيّا مع 120 ألف قتيل على الأقلّ و1.5 مليون منزل مهدّم وسبعة ملايين إنسان تأثروا من جراء ذلك، بينهم ثلاثة ملايين مهجّر، فقد مليون منهم كلّ ما يملكونه، و"إعمار" يقدّر بأنّه سيكلّف أكثر من 200 مليار دولار، لو توقفت الحرب قبل شهور، على مدى ربع قرن.
الهدف الذي أشرنا إليه، الثوري جدّا وعن حقّ، يتبناه تماماً الإنسان السوري الكادح، الذي سلبه نظامه حقوقه السياسيّة، والذي قد يخسر عمره، اليوم، في غمرة النضال العسكري. هذا الإنسان يفهم لامعقوليّة أن يناضل هو أو هي لاستعادة حقوقه/ها السياسيّة، فتستفيد من ذلك، في النهاية، طبقة من أصحاب الرساميل والمتنفّذين، سيحوّلون بلاده إلى باحةٍ خلفية للنيوليبرالية، ما سيعيد استعباد شعب كامل بأشكال أكثر "حضاريّة" و"حداثيّة" من ذي قبل. مفتاح منع ذلك هو فهم موقع الطبقات وعملها في سورية، الحالية، الحقيقية كما هي، من دون جعلها تحلّق فوق الواقع، ولكن، في الوقت عينه، هو ضرورة العمل على تظهير اتّجاه يساري في المتن السياسي الثوري، معادٍ للسياسات الرأسمالية التي تعدّها نخب تحاول مصادرة حقوق الجماهير السورية، ونضالها الرائع في مرحلة ما بعد الثورة.