لماذا يقفز كل ربّان يُعيَّن، من سفينة الاقتصاد اللبناني التي تتَّجه بسرعة نحو الغرق؟ ولمَ يفضِّل الملَّاحون الانسحاب من هذه السفينة بدلاً من البقاء فيها لآخر دقيقة، محاولين إنقاذ ما يمكن إنقاذه لتفادي الوصول إلى القعر؟ ولماذا فقد المسؤولون اللبنانيون السيطرة على سفينة اقتصادهم التي تتخبَّط وسط ضربات الأمواج العاتية وتتعرض لأسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975ـ1990)؟
أسئلة كلها تُطرح بقوّة وبصوت عالٍ منذ تولِّي السفير شربل وهبة منصب وزير الخارجية في حكومة حسان دياب يوم 3 أغسطس/ آب 2020 بدلاً من ناصيف حتّي الذي استقال من منصبه، معتبراً أنّ لبنان ينزلق للتحوُّل إلى دولة فاشلة، مفضِّلاً عدم الخوض العلني في الأسباب التي دفعته إلى اتِّخاذ هذا القرار الذي وافق عليه رئيس الحكومة دياب بسرعة، ممرِّراً رسالة قوية مفادها أنّ المصير ذاته سيكون من نصيب الوزير التالي الذي يفكِّر في اتِّخاذ قرار جادّ ومماثل في حكومة تتصدَّع بسبب كثرة الخلافات والتجاهلات والتدخُّلات.
من بين المهام المنوطة بمنصب وزير الخارجية، المساهمة في إدارة الأزمات من خلال تنظيم العلاقات الخارجية والدبلوماسية مع الدول. لذلك، يضع تعقيد علاقات لبنان الخارجية، ولا سيَّما مع الدول العظمى وحلفائها، قسطاً مهماً من العبء على كتفي وزير الخارجية، وقد كان ناصيف حتّي على قدر المسؤولية، وأبدى استعداده للتضحية في سبيل الإصلاح من خلال دعوة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لبيروت، في الوقت الذي يتفادى فيه القادة الغربيون القدوم إلى هذا البلد الذي ينازع مالياً واقتصادياً.
الوضع الاقتصادي المزري الذي آل إليه الاقتصاد اللبناني مرتبط بنحو وطيد بالعلاقات الشائكة بين لبنان والقوى العظمى المتحكِّمة في القرارات السياسية والاقتصادية، وهذا ما يتطلَّب من الذي يتولَّى منصب وزير الخارجية أن يتقن فنّ التفاوض مع الأطراف المتعدِّدة، وأن يكون بارعاً في تحسين وتمليس العلاقات الخارجية، وخصوصاً في المواقف المتعنِّتة، فهل يعتبر فعلاً شربل وهبة، المستشار السابق لجبران باسيل، الشخص المناسب في المكان المناسب؟
لا يخفى على أحد، سواء في لبنان أو خارجه، أنّ التصدِّي بإحكام للانهيار الكبير بات بيد الفاعلين الدوليين والإقليميين في المرحلة الأولى، وباليد التي تضرب الفساد وتكرِّس القانون والنظام في المراحل الموالية، حيث تتمثل الحقيقة العارية غير المتلبِسة بلبوس تزييف الوعي في أنّ خروج لبنان من عنق زجاجة الاقتصاد المتأزِّم متوقِّف على الكيفية التي سترسو عليها التسوية الإقليمية من خلال تشكيل حكومة جديدة ومدى الانحياز إلى المصالح الجيواستراتيجية للقوى العظمى المتحكِّمة بلعبة الشطرنج التمويلية على رقعة المانحين الدوليين.
فمن دون نزول غيث التمويل من صندوق النقد الدولي أو مؤتمر "سيدر" أو أي جهة خارجية أخرى، لن يتمكَّن الاقتصاد اللبناني من الاستيقاظ من الغيبوبة الاقتصادية والمالية التي سيطول أمدها، نظراً للصورة السوداوية التي ترسمها الأرقام المتعلقة بالاقتصاد اللبناني كفاتورة الدين العام التي تجاوزت 92 مليار دولار أميركي، أي نحو 170 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، واحتياطي العملات الأجنبية الذي لا يتجاوز 20 مليار دولار أميركي، وعجز الحساب الجاري المُقدَّر بـ 25 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11 بالمائة في عام 2020.
وكذا انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بأكثر من 60 بالمائة منذ سبتمبر/ أيلول 2019، ما أدَّى إلى تقليص القدرة الشرائية للأسر، ورفع أسعار السلع الأساسية كثيراً، وقذف أكثر من ثلث السكان إلى أوحال البطالة منذ شهر مايو/ أيار 2019، حيث فُقد أكثر من 220 ألف وظيفة في القطاع الخاص.
كذلك ارتفعت نسبة اللبنانيين الذين يعملون في وظائف غير رسمية إلى 55 بالمائة من القوى العاملة في سنة 2019، بالإضافة إلى انضمام 1.4 مليون لبناني إضافي إلى فئة الأشدّ فقراً، ليصل العدد الإجمالي للفقراء بين اللبنانيين إلى 2.7 مليون نسمة في عام 2020.
ويأتي لبنان في المرتبة الخامسة عالمياً في لائحة الدول الأكثر تفاوتاً في توزيع الدخل والثروة وفقاً لتقرير الثروة العالمية لسنة 2018، حيث تسيطر نسبة 1 بالمائة من أغنى سكان لبنان على أكثر من 25 بالمائة من إجمالي الدخل القومي، وإن كان لحزمة عوامل متعدِّدة يد في التفاوت الصارخ في الدخل بين اللبنانيين.
فللفساد المستشري ألف يد في ذلك. فقد احتلّ لبنان المرتبة الـ137 عالمياً من بين 180 دولة، والمرتبة الـ13 إقليمياً من أصل 18 دولة عربية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2019 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ومن الطبيعي جدّاً أن يتفشَّى الفساد عندما يجد البيئة المواتية التي تحرِّضه على الانتشار السريع والتغلغل في كل زوايا النسيج المؤسساتي.
ولا يمكن فصل الانهيار الكبير الذي يُهشِّم الاقتصاد اللبناني عن الالتصاق الجغرافي بإسرائيل الذي يجعل لبنان يدفع ثمناً باهظاً على الصعيد الاقتصادي، السياسي، الصحّي والأمني، حيث يخلق الموقع الاستراتيجي للبنان ثغرات لا حصر لها لتفشِّي الفساد الذي يُجهض أيّ محاولة للإصلاح قبل ولادتها ولانفلات الأمن من عقاله وضياع هيبة الدولة واستباحة استقرارها.
وكمثال على ذلك، الانفجار المدوِّي الذي هزّ العاصمة بيروت يوم 4 أغسطس/ آب 2020، والذي جاء ليُجهز على ما بقي من بصيص أمل يومض في ظلام الانهيار الاقتصادي الدامس. فلم ينتهِ لبنان من إحصاء خسائره المالية والاقتصادية نتيجة الأزمة التي حاصرته من كل ناحية، حتى شرع بإحصاء خسائره البشرية والمادية بعد الانفجار الضخم الذي حوَّل بيروت إلى منطقة منكوبة.
خلاصة القول، أن سفينة الاقتصاد اللبناني ممكن أن تغرق بمن فيها في أيّ وقت بسبب كثرة قباطنتها الذين يرفضون أن يكونوا يداً واحدة في هذه المحنة، وبفعل الأمواج العاتية للصراع المستمرّ بين مكامن النفوذ الإيراني الأميركي على الساحة اللبنانية، ونتيجة للعاصفة الإسرائيلية التي تأبى أن تهدأ حتى تقتلع حزب الله من جذوره، وجرّاء المجتمع الدولي الذي يصرّ على أن يقف متفرِّجاً دون أن يحرِّك ساكناً حتى يطبِّق لبنان الإصلاحات المطلوبة، حتى وإن كان منطقة منكوبة.