08 نوفمبر 2024
سياسة مصر وسد النهضة.. بين الفني والسياسي
قد يشكل إعلان مصر (نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) فشل المفاوضات الفنية الخاصة بسد النهضة الإثيوبي تعبيراً عن الفجوة السياسية التي تشكلت في المرحلة الماضية، لكنه في الوقت نفسه يلفت الانتباه إلى أهمية إعادة التقييم السياسي للتعامل مع هذا الملف الحيوي، وهو ما يثير السؤال عن إمكانية حدوث تغير في الاستراتيجية المصرية، سواء لغرض تفعيل التفاهمات القانونية، أو طرح استراتيجية جديدة.
ويمكن النظر إلى الإعلان عن فشل المفاوضات الفنية باعتباره واحداً من تداعيات غياب فكرة الإلزام أو ترابط قدرات الدولة، لكنه، في الإطار العام، يعبرعن صعوبة الوصول إلى تفاهمات سياسية بشأن الإدارة المشتركة للمشروعات على مجرى النهر، فتباعد المواقف السياسية، وكذلك الفجوة التفاوضية، من المؤشرات المهمة وذات الدلالة على أن تغيير الوضع الراهن يتطلب إعادة هيكلة السياسات الداخلية والعلاقات الإقليمية، فالأثر السياسي للأعمال الإثيوبية المنفردة يمكن أن تؤدي إلى نتيجتين متعاكستين؛ فمن ناحية، يمكن أن تؤدي عشوائية التخزين لتسرب المياه خارج نطاق سد النهضة. ومن ناحية أخرى، يؤدي نقص ورود المياه إلى اضمحلال فائدة السد العالي في تخزين المياه.
ومن مراجعة مشوار التفاوض، لم يتضح أن السياسة المصرية استصحبت تعريفاً محدّداً للأمن القومي، يمكن على أساسه تحديد عدم جدوى المفاوضات، ومن ثم الانتقال إلى استراتيجية أخرى بديلة. في هذا السياق، يمكن النظر إلى "اتفاق إعلان المبادئ" ووثيقة الخرطوم
(ديسمبر/ كانون الأول 2015)، بأنهما محاولة لخفض النزعات الفردية في السياسة الإثيوبية، خصوصاً مع ظهورها في سياق ترقية التناول السياسي لأزمة سد النهضة ومشاريع التنمية الأخرى، فالاتجاه العام للتفاهمات بين الرؤساء كان يميل نحو فتح أفق للتفاوض السياسي، لكن عدم تجانس سياسات الدول الثلاث (مصر، السودان، إثيوبيا) ساهم في إيجاد بيئة متوترة وانقسامية تقلل من جدوى المفاوضات.
ولذلك، يعد استمرار التفاوض على الأبعاد الفنية التفصيلية، على الرغم من انخفاض جدواها، بمثابة انعكاس لتباطؤ ظهور بدائل في السياسة الخارجية، يمكنها الحد من الاحتجاج الإثيوبي بمبدأ السيادة، أو تدفع باتجاه تفعيل "إعلان المبادئ"، وخصوصاً بالمبدأين؛ الرابع الذي يتناول الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية المشتركة، بحيث تناسب الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول حوض النيل الأزرق، والخامس الخاص بالتعاون في الملء الأول وإدارة السد، والذي يتعلق بالإدارة المشتركة لملء الخزان، ومعدلات التخزين السنوية.
ومن منظور توازن القوى، تبدو أهمية تحليل الحراك الداخلي في كل من إثيوبيا ومصر، وليس فقط تحليل المشاهد والمؤشرات المتعلة بالسياسة الخارجية والترابطات الإقليمية، حيث إن قوة الدولة وتساندها الداخلي يمثل قاطرة النفوذ والتأثير الإقليمي. ومن هذه الوجهة، يمكن ملاحظة أن اختلاف تجربة انتقال السلطة في البلدين انعكس بوضوح على صياغة السياسة الخارجية.
على مستوى إثيوبيا، كانت وفاة رئيس الحكومة السابق، ميلس زيناوي (أغسطس/ آب 2011) تماثل في أثرها السياسي ثورة يناير، حيث شكل دور زيناوي محور ارتكاز النظام الإثيوبي الذي بدأ في 1994. وجه المقارنة هنا يرتبط بقدرة أي من البلدين على ملء فراغ السلطة بطريقة سلسة، ومن دون حدوث اضطرابات أو أزمات سياسية، وذلك باعتباره مؤشراً على مدى إسناد السياسة الخارجية.
منذ العام 2011، أخذ الخروج من المرحلة الانتقالية وعمليات تشكل السلطة في مصر مشواراً طويلاً من التوتر والخلاف السياسي، فمن جهة شهدت مصر، خلال تلك الفترة، تقلبات دستورية وسياسية، كما كان وجود السلطة التشريعية متقطعاً حتى نهاية 2014، حيث لم يتبلور إطار سياسي يؤثر على الطرفين الآخرين في اللجنة الثلاثية أو يلزمهما، غير أنه بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية (2014)، ظهرت محاولات لتناول الخلافات من منظور سياسي، تهدف إلى خفض التوتر مع إثيوبيا، وانعكس هذا الوضع في تباطؤ تفاعل السياسة الخارجية مع التداعيات المتسارعة للسياسة الإثيوبية تجاه سد النهضة، وهذا ما يفسّر هيمنة الطابع الفني على معالجة مشكلة حيوية.
على مستوى انتقال السلطة في إثيوبيا، على الرغم من الفجوة التي خلفها رحيل زيناوي، استطاعت الجبهة الثورية (التحالف الحاكم) تطوير أدائه السياسي، بحيث تمكّن من اجتياز انتخابات 2015 باحتكار كامل للمقاعد التشريعية والمحلية، وهذا ما ساعد إثيوبيا في التركيز على السياسات التنموية، ورفع معدل النمو الاقتصادي، وتعزيز تحالفاتها الإقليمية، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.
تختلف الظروف الحالية عن وضع مصر في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت سياستها
الإفريقية أكثر فاعلية وتضامناً مع حركات التحرّر والدول حديثة الاستقلال، حيث إنه في السنوات الأخيرة، حدث تفكك في تضامن دولتي المصبّ؛ مصر والسودان، تجاه سياسات المياه، تمثل المظهر الأخير للتفكك في ظهور خلاف حول تفسير اتفاقية 1959، وتعريف حصة السودان من المياه، ما شكل مسألةً مربكة في مسارات التفاوض الفنية، بحيث يمكن القول إن الترتيبات الخاصة، سواء بالتفاوض الفني أو تلك الخاصة بالبعد السياسي، صارت شاقة، بسبب اختلاف منظور كل من مصر والسودان لطبيعة سد النهضة، وتفاقم النزاع حول مثلث حلايب، ما يشيع حالة من السياسات المتنافرة والمتغيرة.
قد يمهد هذا الوضع لتجاوز الخلاف بشأن سد النهضة، واعتباره أمراً واقعاً، ليتحول الجدل إلى الانتقال إلى إطار جماعي آخر لحوض النيل، حيث تكون السياسة المصرية أمام واقع مركّب، يتمثل في الإقرار بالوضع القائم كحل نهائي للخلاف بين مصر ودولتي النيل الأزرق، وتزايد فرص إطار "عنتيبي" كحل أخير للنزاع حول مياه النيل.
وبشكل عام، تشير التطورات السياسية إلى وجود علاقة بين التقدم في بناء سد النهضة والتقلبات التي شهدتها مصر منذ 2011، حيث رأت إثيوبيا أن ما يحدث في مصر يوفر فرصة مثالية لتدشين مشاريعها المؤجلة، ومن دون أعباء سياسية أو قانونية مزعجة، بحيث يمكن القول، إن استمرار المشكلات الداخلية سوف يُضعف الفرص المحتملة لتقليل المخاطر المائية. ولذلك، تبدو أهمية أن تساهم الانتخابات الرئاسية في تكوين فرصة ملائمة لتعزيز دور مصر في دعم مطالب الإدارة المشتركة لسد النهضة، والتفاوض الجاد على سياسة إثيوبيا في بناء سدود أخرى، وهو ما يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في استراتيجة التفاوض، فإن استمرار الوضع الحالي يشكل تحدياً بليغاً للمصالح المصرية.
ويمكن النظر إلى الإعلان عن فشل المفاوضات الفنية باعتباره واحداً من تداعيات غياب فكرة الإلزام أو ترابط قدرات الدولة، لكنه، في الإطار العام، يعبرعن صعوبة الوصول إلى تفاهمات سياسية بشأن الإدارة المشتركة للمشروعات على مجرى النهر، فتباعد المواقف السياسية، وكذلك الفجوة التفاوضية، من المؤشرات المهمة وذات الدلالة على أن تغيير الوضع الراهن يتطلب إعادة هيكلة السياسات الداخلية والعلاقات الإقليمية، فالأثر السياسي للأعمال الإثيوبية المنفردة يمكن أن تؤدي إلى نتيجتين متعاكستين؛ فمن ناحية، يمكن أن تؤدي عشوائية التخزين لتسرب المياه خارج نطاق سد النهضة. ومن ناحية أخرى، يؤدي نقص ورود المياه إلى اضمحلال فائدة السد العالي في تخزين المياه.
ومن مراجعة مشوار التفاوض، لم يتضح أن السياسة المصرية استصحبت تعريفاً محدّداً للأمن القومي، يمكن على أساسه تحديد عدم جدوى المفاوضات، ومن ثم الانتقال إلى استراتيجية أخرى بديلة. في هذا السياق، يمكن النظر إلى "اتفاق إعلان المبادئ" ووثيقة الخرطوم
ولذلك، يعد استمرار التفاوض على الأبعاد الفنية التفصيلية، على الرغم من انخفاض جدواها، بمثابة انعكاس لتباطؤ ظهور بدائل في السياسة الخارجية، يمكنها الحد من الاحتجاج الإثيوبي بمبدأ السيادة، أو تدفع باتجاه تفعيل "إعلان المبادئ"، وخصوصاً بالمبدأين؛ الرابع الذي يتناول الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية المشتركة، بحيث تناسب الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول حوض النيل الأزرق، والخامس الخاص بالتعاون في الملء الأول وإدارة السد، والذي يتعلق بالإدارة المشتركة لملء الخزان، ومعدلات التخزين السنوية.
ومن منظور توازن القوى، تبدو أهمية تحليل الحراك الداخلي في كل من إثيوبيا ومصر، وليس فقط تحليل المشاهد والمؤشرات المتعلة بالسياسة الخارجية والترابطات الإقليمية، حيث إن قوة الدولة وتساندها الداخلي يمثل قاطرة النفوذ والتأثير الإقليمي. ومن هذه الوجهة، يمكن ملاحظة أن اختلاف تجربة انتقال السلطة في البلدين انعكس بوضوح على صياغة السياسة الخارجية.
على مستوى إثيوبيا، كانت وفاة رئيس الحكومة السابق، ميلس زيناوي (أغسطس/ آب 2011) تماثل في أثرها السياسي ثورة يناير، حيث شكل دور زيناوي محور ارتكاز النظام الإثيوبي الذي بدأ في 1994. وجه المقارنة هنا يرتبط بقدرة أي من البلدين على ملء فراغ السلطة بطريقة سلسة، ومن دون حدوث اضطرابات أو أزمات سياسية، وذلك باعتباره مؤشراً على مدى إسناد السياسة الخارجية.
منذ العام 2011، أخذ الخروج من المرحلة الانتقالية وعمليات تشكل السلطة في مصر مشواراً طويلاً من التوتر والخلاف السياسي، فمن جهة شهدت مصر، خلال تلك الفترة، تقلبات دستورية وسياسية، كما كان وجود السلطة التشريعية متقطعاً حتى نهاية 2014، حيث لم يتبلور إطار سياسي يؤثر على الطرفين الآخرين في اللجنة الثلاثية أو يلزمهما، غير أنه بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية (2014)، ظهرت محاولات لتناول الخلافات من منظور سياسي، تهدف إلى خفض التوتر مع إثيوبيا، وانعكس هذا الوضع في تباطؤ تفاعل السياسة الخارجية مع التداعيات المتسارعة للسياسة الإثيوبية تجاه سد النهضة، وهذا ما يفسّر هيمنة الطابع الفني على معالجة مشكلة حيوية.
على مستوى انتقال السلطة في إثيوبيا، على الرغم من الفجوة التي خلفها رحيل زيناوي، استطاعت الجبهة الثورية (التحالف الحاكم) تطوير أدائه السياسي، بحيث تمكّن من اجتياز انتخابات 2015 باحتكار كامل للمقاعد التشريعية والمحلية، وهذا ما ساعد إثيوبيا في التركيز على السياسات التنموية، ورفع معدل النمو الاقتصادي، وتعزيز تحالفاتها الإقليمية، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية.
تختلف الظروف الحالية عن وضع مصر في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت سياستها
قد يمهد هذا الوضع لتجاوز الخلاف بشأن سد النهضة، واعتباره أمراً واقعاً، ليتحول الجدل إلى الانتقال إلى إطار جماعي آخر لحوض النيل، حيث تكون السياسة المصرية أمام واقع مركّب، يتمثل في الإقرار بالوضع القائم كحل نهائي للخلاف بين مصر ودولتي النيل الأزرق، وتزايد فرص إطار "عنتيبي" كحل أخير للنزاع حول مياه النيل.
وبشكل عام، تشير التطورات السياسية إلى وجود علاقة بين التقدم في بناء سد النهضة والتقلبات التي شهدتها مصر منذ 2011، حيث رأت إثيوبيا أن ما يحدث في مصر يوفر فرصة مثالية لتدشين مشاريعها المؤجلة، ومن دون أعباء سياسية أو قانونية مزعجة، بحيث يمكن القول، إن استمرار المشكلات الداخلية سوف يُضعف الفرص المحتملة لتقليل المخاطر المائية. ولذلك، تبدو أهمية أن تساهم الانتخابات الرئاسية في تكوين فرصة ملائمة لتعزيز دور مصر في دعم مطالب الإدارة المشتركة لسد النهضة، والتفاوض الجاد على سياسة إثيوبيا في بناء سدود أخرى، وهو ما يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في استراتيجة التفاوض، فإن استمرار الوضع الحالي يشكل تحدياً بليغاً للمصالح المصرية.