حين التقيتُ سيرغي لوزنيتسا في "فندق المامونية"، مقرّ إقامته ضيفاً لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، لتقديم "ماستركلاس" في الدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019)، بدا رجلاً ودوداً ومتحمّساً للتقاسم. لا تُنبئ برودة نظراته السلافية بروحه المرحة، بالطريقة نفسها التي لا تدلّ بها حركاته البطيئة والمحسوبة على الخفّة التي ينتقل بفضلها من الوثائقي إلى الروائي. 16 فيلماً طويلاً، و6 أفلامٍ قصيرة لهذا المخرج الأوكراني الجنسية، البيلاروسي المولد (1964) أيام الاتحاد السوفييتي، الذي لم يكفّ ـ منذ مطلع القرن الحالي ـ عن تشريح أنساقه الفكرية وتداعياته الإيديولوجية العاصفة على حاضر أوروبا الشّرقية، المثقل بالحروب والتقلّبات.
لعلّ أبرز أعماله روائيٌ بعنوان "سعادتي" (2010)، عرّف به بشكل واسع، كما نعته المخرج الروسي أندري زفيغيانتسيف بأفضل فيلم متحدّث بالروسية في العقد الأوّل من الألفية الجديدة. هناك أيضاً "دونباس" (2018)، الفائز بجائزة أفضل إخراج في "نظرة ما"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لـمهرجان "كانّ" السينمائيّ، وفيه 13 محكية فيلمية مختلفة، 7 منها مستوحاة من فيديوهات حقيقية معروضة على "يوتيوب"، عن حرب الجيش الأوكراني ضد الانفصاليين الروس.
اشتغل لوزنيتسا، في أفلامٍ وثائقية عدّة له، على مادة أرشيفية لم تُعرض سابقاً، مُعيداً صوغها اعتماداً على تصميم صوتي خلّاق لا يغفل التفاصيل الدقيقة، ومونتاج يترفّع عن التعليق الصوتي والكتابة المطبوعة، مستعيناً بالجدلية الآيزنشتانية (سيرغي آيزنشتاين) والديناميكية الفيرتوفية (دزيغا فيرتوف)، اللتين يتيحهما المزج بين الصُور واللّعب على إيقاعاتها، لخلق المعنى من أشلاء الأمكنة وانكسارات السرد، في ذهن مُشاهدٍ يأبى مخرج "الحصار" (2006) إلّا أن يمنحه مكانة أساسية وحرية كاملة في منظومة الحكي، لصوغ خلاصاته الخاصة. لهذا، يستخدم نظريات الفيزياء وميكانيكا الكمّ، خصوصاً أنّ تكوينه في الرياضيات (مهندس متخصّص في أنظمة الذكاء الاصطناعي وسيرورة اتخاذ القرار، قبل تركه كلّ شيء من أجل السينما) يُسعفه على استجلاء مكنوناتها الفلسفية.
في رائعته الوثائقية الأخيرة "جنازة رسمية" (2019)، حول مراسم تأبين جوزيف ستالين وجنازته عام 1953، يصوغ لوزنيتسا، في قالب سينمائي صرف، كاتدرائية أحاسيس مبهرة وبليغة، في ظاهرة عبادة الشخصية السياسية، ويلتقط ـ بتكثيف هذه اللحظة الاستثنائية (حركات حشود المشيّعين والمتتبّعين للتأبين عن بعد، بفضل ميكروفونات الإذاعة، ومظاهر توقف الزمن وتوحّد ردود الفعل في بوتقة التضامن الشيوعي) ـ كُنه السلطة السوفييتية، المرتكز على قوّة الرمز وقدسية الطقوس. جوهرة رابعة تُضاف إلى وثائقيّاته المتمحورة حول معنى السلطة، بعد "ميدان" (2014) و"الحدث" (2015) و"المحاكمة" (2017).
هناك إنجاز كبير في صنع "جنازة رسمية"، رغم كونه وثائقياً يرتكز على مونتاج أرشيف، لأنّ هناك رهاناً كبيراً لتقرير ما سيكون في الفيلم، وما سيُستبعد، وأيضاً حول اختيارات التوليف الفنية الأخرى. ما أبرز ما وجّه تلك الاختيارات بالنسبة إليك؟
لم أصوّر المادة التي اشتغلت عليها، ما يجعل المهمّة أعقد. عندما أصوّر بنفسي، يمكنني على الأرجح التصوير مُجدّداً عند الحاجة. في هذه الحالة، لم يكن لديّ سوى ما أملكه. كيف أعبّر عن أفكاري بلقطاتٍ صوّرها شخصٌ آخر؟ في العمق، هذا شيء ممتع جداً، أنْ تستخدم كلّ تعقيدات لغة الفيلم للتعبير عن نفسك. أقصد هنا المونتاج والدراماتورجيا والموسيقى والتشكيل، وخاصة الإيقاع والنبرة.
في هذا الفيلم، استخدمتها كلّها. المادة الفيلمية التي حصلتُ عليها تبلغ مدّتها 35 ساعة من اللقطات. مدة طويلة جداً بالنسبة إلى المدة النهائية للفيلم، أيّ 135 دقيقة. هذا يعني أنّ لقطة واحدة فقط من 15 وجدت طريقها إلى الفيلم.
كما قلتَ، كان عليّ تقرير ما ينبغي تضمينه وما يجب استبعاده. لذا، صغت هيكل الفيلم في ذهني منذ البداية. مسألة الاختيارات تتعلّق دائماً بالهيكل. أبدأ من لحظة إحضار التابوت إلى المكان الذي سيبقى فيه 3 أعوام. يُفتح التابوت، فنرى مَنْ بداخله. هذا الجزء مُقدّمة غامضة نوعاً ما. بعد ذلك مباشرة، كشفتُ علناً موضوع الفيلم، مع الإعلانات في البلد كلّه، فيعلم الناس أنّ ستالين مات. لقد مات الإله. في ذلك الوقت، لمعظم الناس أجهزة راديو في منازلهم. كما اعتادوا الحصول على المعلومات من التجمّعات وديناميكية الشارع. هذا هو سبب رؤية هؤلاء الأشخاص المحيطين بمكبّرات صوت مُعلّقة بأعمدة تذيع وتعلّق، شعراً ونثراً، على الخبر باستمرار. استخدمتُ هذه اللقطات لأنها تعبّر إلى حدّ ما عن الديناميكية نفسها في الاتحاد السوفييتي: في آسيا والشرق والشرق الأقصى، وفي الجزء الأوروبي وأقصى الشمال. هذه كانت أيضاً طريقة لإظهار أنّ الاتحاد السوفييتي شاسعٌ جداً.
ولإظهار التنوّع الكبير الذي كان يسوده أيضاً.
نعم. التّنوع، وكم كان كبيراً حجم مأساة رحيل ستالين.
ما كان مؤثّراً للغاية هو الشعور، عبر هذه اللقطات، بأنّ شيئاً ما على وشك الانتهاء، ليس الاتحاد السوفييتي، بل فكرة معيّنة عنه.
بالتأكيد. بعد ذلك، عندما حصلتُ على هذه الأداة لتوحيد نظرة كلّ أنحاء البلد بواسطة برامج الراديو، استخدمتُها في فترات مختلفة من الفيلم، لتحقيق نوع من السلاسة في عبور يوم التأبين وعرض الجثمان، ثمّ أنهيت الفيلم مع مراسم الجنازة، التي تبدو تقريراً صحافياً، وهي مختلفة قليلاً عن الأجزاء السابقة للفيلم. لكنّي أمسكتُ مُجدّداً بزمام الأمور مع ختم الفيلم بحاشية (جملة تُذكّر أنّ الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين كان دكتاتورية رهيبة، أدّت إلى اضطهاد ملايين المعارضين وقتلهم ـ المحرّر).
بعد تحديد الهيكل، اشتغلتُ مع الموضِّب على تقسيم المَشاهد إلى مقاطع صغيرة، ثمّ تمّ صَفّها وفرزها في مجموعات. كان هناك نحو 18 ألف مقطع في النهاية.
هذا كثير.
إنّه عمل ضخم جداً، استغرق أكثر من 3 أشهر. بعد ذلك، أصبح الأمر سهلاً إلى حدّ ما، فتمكنّا من اختيار أفضل المقاطع لكلّ حركة من الفيلم.
ما الفرق، على مستوى المونتاج، بين الاشتغال على فيلمٍ وثائقي وآخر روائي؟
ليس هناك فرق كبير. لا يهمّ كثيراً نوع الفيلم الذي أصنعه. الاختلاف هو أنّي أستطيع، في العمل الروائي، مُشاهدة مختلف اللقطات المُصوّرة واختيار الأفضل منها. في وثائقيّ الأرشيف، كلّ ما لديّ هو الأفضل. هناك تفاصيل صغيرة تجعل لقطة معيّنة مميّزة عن الأخرى. بصرف النظر عن هذا، تمّ تصوير المادة الفيلمية كلّها ببراعة، فيما يخصّ "جنازة رسمية". إنها بمثابة لحظة تاريخية فريدة تم تثبيتها على الفيلم إلى الأبد بواسطة كاميرات عدّة. مثلاً، هناك لحظة واحدة التُقِطَت من زوايا مختلفة بكاميرات عدّة، استخدمتُها في المونتاج كما لو أنّ الأمر متعلّق بفيلمٍ روائي.
هذا يضفي ديناميكية رائعة على بعض المَشاهد.
بالضبط.
ما قلتَه عن حقيقة أنّ كلّ شيء تمّ تصويره ببراعة ذكّرني بالوثائقي "انتصار الإرادة" للألمانية ليني ريفنشتاهل، في التشكيل البارع للقطاته، وفي سعيه إلى تمجيد ما يتمّ تصويره.
طبعاً. سأخبرك عن الفرق بين طريقتي التصوير الألمانية والروسية. أثناء اشتغالي على فيلمٍ سابق، حاولت تغيير "النسبة الباعية" (نسبة العرض إلى الارتفاع ـ المحرّر) لجعلها 1: 2.3. عند تغيير النسبة باستخدام اللقطات الألمانية، تفقد بعض المعلومات. مع اللقطات الروسية، لن تفقد المعلومات الموجودة في الإطار أبداً.
هذا يعني أنّ المُصوّرين الألمان يحاولون تغطية كلّ المساحة المتوفرة لديهم في الإطار بالمعلومات، بينما يترك الروس بعض الفراغ. ينتهج الألمان كذلك طريقة عمودية وأفقية لرؤية الأشياء، أما الروس فينظرون إليها عموماً بشكل أفقي فقط. فوجئت جداً باكتشاف هذه الأشياء. لذا، للاحتفاظ بالمعلومات كلّها في اللقطات الألمانية، كان عليّ إنجاز حركات أفقية وعمودية داخل الإطار. تمّ تصوير اللقطات التي اشتغلتُ عليها في "جنازة رسمية" بواسطة 200 مُصوّر، لكن بطريقة ما تمكّنوا دائماً من الحصول على شيء مشترك، في التكوين مثلاً. عامل موحّد اتّسمت به اللقطات كلّها، لكنّي كنت بحاجة إلى تعزيزه بحيث يبدو الفيلم كأنّه صُوِّر بيدٍ واحدة. يمكن تخيّل كم كان الاشتغال على هذا الجانب رائعاً. قمتُ بعملٍ جيّد لإنشاء أسلوب موحّد، لكن طبيعة المَشاهد نفسها ساعدت كثيراً. يصعب جداً تحديد من صوّر ماذا.
المُثير للانتباه أيضاً أنّك حتّى لو لم تقم بتصوير مادة الفيلم بنفسك، هناك الفكرة الحاضرة في أفلامك كلّها تقريباً، المتعلّقة بجمالية الحشود وتصميم حركاتها مثل كوريغرافيا.
نعم. فقط بعد إنجازي فيلمي الخامس أو السادس، أدركتُ أنْ لا أبطال لأفلامي (يضحك). كلّها تتمحور حول الحشود وتجمهرات الناس. هذا يرجع ربما إلى تخصّصي في الرياضيات، أو إلى عيشنا اليوم في عصر الأعداد الهائلة. ربما يتعلّق الأمر أيضاً بأننا بدأنا نتخلّى عن فكرة أنّ الإنسان مركز كلّ شيء في الكون: الحضارة والطبيعة، وبتنا ندرك أنّ كلّ واحد منّا هو بالأحرى جزءٌ من حركة كبرى، وأنْ التاريخَ تحصيلٌ لحركات الحشود. هذا درس رئيسي من تاريخ القرن الـ21. حان الوقت للتحقيق ومحاولة فهم القوانين التي تحكم كيفية عيش التجمّعات البشرية وحركتها. لا أقول لنفسي: "سيرغي. عليك أنْ تصنع أفلاماً متمحورة حول هذه الثيمة فقط". الأمر أشبه بموضوع يستحوذ على اهتمامي، فيجد طريقه إلى أفلامي بشكلٍ طبيعي. ليس سهلاً أبداً أنْ تنبري له، خصوصاً عندما تكون جثة بطلك، كحال "جنازة رسمية"، مسجّاة وسط الموقع الرئيسي (يضحك).
الأمر شبيهٌ بـ"سايكو" لهيتشكوك.
نعم. أنْ تفقد بطل الرواية في أوّل 20 دقيقة من الفيلم. لكنْ، في الوقت نفسه، جثّة ستالين بمثابة بطل مزيّف. البطل الحقيقي هو الحشد. هذا ليس فيلماً عن ستالين، بل عن الناس. هؤلاء الذين يصنعون القوّة المسمّاة سلطة. ستالين مجرّد شخصية رمزية، وكلّ شيء حولها يرتكز على الطقوس التي تحكم كيفية عيشنا كمجتمعات، وإلّا فإنّها ستنهار فوراً. طبعاً، يُمكن أن تكون هذه الطقوس إنسانية أو أقل إنسانية، من حالة إلى أخرى. لكنْ، هناك دائماً نوع من الطقوس يرتبط بالسلطة.