مع بداية القرن التاسع عشر بدأ يظهر نوع من الدراسات الآثارية إلى الوجود، يتمثل بالبحث عن جغرافيا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وظهر دارسون وبحاثة يحملون ألقاباً أكاديمية من كليات اللاهوت الأميركية والبريطانية على وجه الخصوص، قاموا برحلات استكشافية حددوا من خلالها أماكن الحج المسيحية واليهودية في مناطق بلاد الشام الجنوبية على وجه الخصوص، كما اهتم البعض منهم بدراسة الطوائف الدينية المسيحية والإسلامية الموجودة في المنطقة، ولم يخف بعضهم الحديث عن أن إحدى غايات هذه البعثات الاستكشافية بالإضافة لمعرفة الجغرافيا المقدسة، أيضاً البحث في إمكانيات إعادة من يسمونهم "شعب الرب"، أي اليهود، إلى تلك الأماكن.
وفي الحقيقة؛ كانت هذه الدراسات هي الوجه الآخر للمشروع الاستعماري الإمبريالي الذي ترافق مع الثورة الصناعية الثانية. ويعد الرحالة والبحاثة سيلاه ميرِل أحد أبرز ممثلي الجيل الثاني من رواد هذه الدراسات التي عُنيت بآثار "الأراضي المقدسة".
ولكن ما يختلف فيه ميرل عن بقية زملائه من علماء الآثار الكتابيين هو وصوله إلى قناعة تتمثل في استحالة نجاح تجربة الاستيطان في فلسطين، بعد معايشة دقيقة للأوضاع خلال عامي 1882 و1886 حين عمل قنصلاً في سفارة الولايات المتحدة في القدس، إذ أصبح من أشد المعارضين للاستيطان اليهودي (الزراعي) الذي بدأ بالانتشار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وبدأت علاقة سيلاه ميرل مع فلسطين في العشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1874 حين عينته الجمعية الأميركية لاستكشاف فلسطين كعالم آثار لديها، فأبحر من نيويورك في التاسع من حزيران من عام 1875، حيث وصل إلى بيروت، التي كانت مقر البعثات التبشيرية في سورية، يوم الاثنين في التاسع من شهر آب. وخلال عامين، ما بين 1875 ـ 1877، قام بأربع رحلات مختلفة لا يرد ذكر إلا يوميات اثنتين منها بالتفصيل في كتابه الشهير "شرقي الأردن".
استمرت عمليات الاستكشاف التي قادها ميرِل من عام 1875 حتى صيف عام 1877، إذ عاد بعدها إلى الولايات المتحدة لكي يكتب التقارير عن تلك العمليات، وليساعد السيد رودولف ميئير، مهندس الجمعية في رسم الخرائط التي تخص مناطق شرقي الأردن، ومنها الجزء الجنوبي من الجولان أي منطقة فيق والحمة.
ولد ميرِل في مركز مقاطعة هارتفورد كونيكتيكت، في 2 أيار (مايو) 1837. دَخلَ جامعة يال، لكنه غادرها قبل أن يتخرج، وفي وقت لاحق حصل على درجة (A.M) من إحدى المؤسسات الخاصة بتعليم الكتاب المقدس، قبل أن يتسلم منصبه في إحدى مدارس اللاهوت.
عيّن مبشراً بروتستانتياً في عام 1864، وقامَ بالوعظ بعد ذلك في تشستر ماسشوستس، ولوروي، ونيويورك، وسان فرانسيسكو، وكاليفورنيا، ونيوهامشير.
ثم عمل قسيساً في فرقة مشاة خاصة بالزنوج في الجيش الأميركي في فيكسبورغ مسيسبي من عام 1864 وحتى عام 1868 ثم عين في عام 1870 مدرساً في ألمانيا.
في عام 1874 عينته الجمعية الأميركية لاستكشاف فلسطين عالم آثار، فأرسلته إلى الأراضي المقدسة التي بقي فيها حتى عام 1877. ثم أصبح قنصلاً للولايات المتحدة الأميركية في القدس اعتباراً من عام 1882 وحتى عام 1886. جمع ميرِل خلال رحلاته الاستكشافية مجموعةً كبيرة من الطيورِ، والحيوانات، والعملات، واللقى الأثرية، ووضع مؤلفات عديدة في جغرافيا الكتاب المقدس وكَتب مقالات كثيرة نشرها في دوريات متخصصة حول الجغرافية الكتابية، والنقوش الأثرية، ومواضيع تخص الشرق.
وقد نَشر كتابه "شرقي الأردن" في نيويورك عام 1881، ثم صدرت طبعة جديدة له في مدينة إكزبتر البريطانية عام 1986.
عبثية الاستيطان
وكما أسلفنا ترسخت قناعات ميرِل بعبثية الاستيطان اليهودي في فلسطين، والأراضي الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، بعد أن عمل قنصلاً أميركياً في القدس، فقبل ذلك، أي أثناء أعماله الاستكشافية في منطقة جنوب الجولان في 6 آذار (مارس) 1876، لم يخف تطلعه لتوطين شعب "متحضر" في هذه الأراضي حيث يقول: "وإذا ما خضعت سورية يوماً لحكومة صالحة وقطنها شعب ذكي متحضر، فإن هذه الينابيع (الحمة) سوف تصبح، دون ريب، واحداً من أروع المنتجعات المائية في البلاد كلها". ولكن وبعد 15 عاماً كان واحداً من أشد المعارضين لمذكرة بلاكستون (العضو الفعال في الكنيسة التدبيرية)، التي يعتبرها الكثيرون الوثيقة الصهيونية الأولى الداعية لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1891، أي قبل كتاب هيرتزل "دولة اليهود" والمؤتمر الصهيوني الأول ببضع سنوات.
لقد كان رأي ميرِل الذي رفعه في تقرير وجّهه إلى الحكومة الأميركية رداً على مذكرة بلاكستون الموجهة للرئيس الأميركي هاريسون ووقعتها 413 شخصية من نخب المجتمع الأميركي، تتخلص في أن الذين وقعوا على مذكرة بلاكستون "يجهلون حقيقتين عظيمتين؛ الأولى أن فلسطين لَيستْ مهيأة لاستقبال اليهود والثانية أن اليهود أنفسهم لَيسوا مهيئين للذهاب إلى فلسطين".
ومما قاله ميرِل: "يتوجّب على اليهودي أن يتَعَلّم بأنّ مكانته في العالمِ يقررها ما يمكن أن يصنعه هو لنفسه، وليس ما كان النبي إبراهيم قد صنعه من أجل نفسه قبل أربعة آلاف عام".
لقد مثلت مشاعر ميرِل رأي نخبة من رجال الدولة الأميركيين الذين خدموا في الدبلوماسيةِ والإدارات القنصلية، وغلّبوا لغة العقل على طغيان المشاعر الدينية الألفية التي كانت تلهب حماس رجال الدين الأنغليكان من أمثال بلاكستون وغيره.
في أم قيس
حول زيارته إلى منطقة أم قيس في السادس من آذار (مارس) 1876 كتب ميرِل: "خلال الأسبوع الماضي زرنا أم قيس أو جدارا عدة مرات. وهي تبعد عن مخيمنا مسافة ثلاثة أميال تقريباً. وجدارا مفصولة عن هضبة شرقي الأردن، والتي تنتمي إليها تماماً، بوادي المناظرة (اليرموك) في الشمال ووادي العرب في الجنوب. وكنا قد استكشفنا المنطقة الواقعة إلى الشرق منها بشكل كامل إلى حد ما، كما استكشفنا الهضبة الكبيرة الواقعة إلى الشرق من بحر الجليل (بحيرة طبرية) حول كفر حارب والحصن أو جملة وفيق. وكذلك استكشفنا وادي المناظرة الواقع على مسافة قريبة إلى الشرق من الحمة، بما في ذلك بركة العرايس أو نافورة العرايس والدغل الشهير في المخيبة. الأخير يقع على بعد ثلاثة أميال باتجاه أعلى الوادي إلى الشرق ويحتوي على نبع حار كبير واحد، يبلغ حجمه، من حيث ما يتعلق بكمية المياه، مقدار حجم الينابيع الثلاثة الأشد حرارة في الحمة. وكان هذا الدغل الذي يتكون من شجيرات شوكية وعيدان القصب والأشجار كثيفاً جداً إلى درجة أنه كان من الصعب جداً التنقل فيه. والمخيبة سهل يقع بين الجبال ويجري النهر على الجانب الشمالي منه، في حين أن النهر هنا يقع في الجانب الجنوبي من السهل. وهناك اسم آخر يطلقه العرب على النهر في المخيبة وهو أبو خاروف".
ويبلغ طول السهل نحو ميل وعرضه نصف ميل. ويجري الماء المنبثق من النبع الكبريتي الذي مر ذكره في السهل بعدة جداول ويجعل منه جنة مدارية. وقد أحصيت ثماني عشرة شجرة مدارية تنمو هناك، في حين لم أعرف عدد الشجيرات والأزهار والنباتات، كما أنني لا أعرف إن كنت قد لاحظت جميع الأشجار. غير أن المعلم الأكثر إثارة للدهشة هو بستان يضم مئتي نخلة جميلة تسمق برؤوسها الرشيقة فوق السهل والدغل تحتها".
جنة مدارية
وفي وصفه للطبيعة الغريبة في المنطقة كتب يقول: "ولا يمكن أن يشاهد منظر كهذا في أي مكان آخر في سورية. إن كل ما ينمو هنا ينمو إلى حد الكمال. لا شيء يعاق نموه أو يقزم. ولم أشق طريقي من قبل على الإطلاق ـ أو أحاول أن أشق طريقي ـ في دغل كهذا. وفي الحقيقة، فإنه من المستحيل، في معظم الأماكن، أن يجد المرء ممراً عبره، ما لم يتعين عليه أن يشق طريقه باستخدام الفؤوس. إنه في الواقع كتلة واحدة من الغطاء النباتي ـ دغل مترابط ومتشابك ومتداخل وكثيف وكأنه جدار أصم.
تعيش خنازير برية هنا، حيث لديها مخبأ آمن. وبالقرب من الطرف الأعلى للسهل، غير بعيد عن النبع، تقع مطحنة تدار بمياه حارة تزيد حرارتها على 100 درجة. أما درجة الحرارة في النبع ذاته فهي 112 درجة.
وتجد هنا وهناك فسحة صغيرة قطعت أشجارها ونصبت فيها خيام سوداء أو أقيم كوخ من عيدان القصب. ولا بد أن الموقع غير صحي في الصيف. غير أنه في هذا الفصل واحد من أجمل الأماكن التي رأيتها على الإطلاق وأكثرها سحراً.
تقوم النساء بحياكة حصر كبيرة من عيدان القصب الرفعية، وهذه الحصر تستخدم هنا، وفي أماكن أخرى، كجدران لمنازلهم المصنوعة من القصب. وهؤلاء النسوة يستطعن أن يصنعن حصيرة تكفي لبناء جانب من المنزل في يوم أو يومين. وتساوي قطعة حصير كهذه، بعد إنجازها، أربعة قروش، أو ستة عشر سنتاً".
نسور الغريفون
ويروي ميرِل شيئاً عن الحياة البرية في المنطقة فيكتب عن صيد نسرين من نوع الغريفون وهو أكبر النسور المعروفة على وجه الأرض: "ليلة السبت والبارحة تعرضنا لعاصفة قاسية.
كان الطقس ضبابياً ومظلماً وكانت تمطر معظم الوقت، وكان ذلك مزعجاً جداً. كانت الريح تعصف والمطر ينهمر إلى درجة أنني لم أستطع تأمين الكثير من النور في خيمتي، وفي اليوم التالي استمر الوضع كما هو بدلاً من أن ينفرج أو يتحسن. فضلاً عن ذلك، تسببت رائحة كريهة في جعل خيمتنا مزعجة بصورة غير مألوفة. حيث كان فان ديك محظوظاً فقتل بالرصاص زوجاً (أنثى وذكر) من نسور الغريفون. وبلغ حجم كل منهما ثلاثة أقدام وست بوصات من رأس المنقار إلى نهاية الذيل، وبلغ انتشار جناحي أحدهما ثمانية أقدام وثلاث بوصات والآخر ثمانية أقدام وأربع بوصات.
ورغم أنهما بنفس الطول تماماً، فإن انتشار جناحي الأنثى كان أكبر بمقدار بوصة من الذكر. ولكنني لا أستطيع القول رائحة أيهما كانت الأسوأ. لقد كانا من أقذر الطيور التي رأيتها على الإطلاق. وقد ظننت أننا سنصاب بالمرض. غير أنه بعد أن تم سلخهما وحفظهما أصبح الجو حول مخيمنا أنقى إلى حد ما. وقد أخبرت فان ديك هذا الصباح بأنني آمل أنه لن يستطيع اصطياد أي نسور غريفون أخرى، لأننا نتحمل، من خلال سلخها وإعدادها، كما بدا لي، تضحية من راحتنا أكثر مما يتحمله حتى المستكشفون الذين يتعرضون للمشاق. غير أنه ليس من السهل الحصول على هذه الطيور، وأظن أننا يجب أن نحتمل هذا كله في سبيل العلم.
هذا وقد أخذت مجموعتنا من التاريخ الطبيعي تزداد يومياً. وهي تتكون، في الوقت الحاضر، من الطيور بصورة رئيسية. فنحن لم نلاق كثيراً من النجاح، حتى الآن، مع الحيوانات ذات الأربع. لقد رأينا ذئاباً وثعالب وبنات آوى وغزلاناً وحيوانات النمس وغيرها، وكذلك خنازير برية، لكنها جميعاً نجت من بنادقنا. وقد حاولت، قبل أن أغادر بيروت الحصول على فخ كذاك الذي كنت أمسك به الطرائد في أميركا، ولكني لم أجد. إذ لا أحد قد رأى، على الإطلاق، شيئاً كالذي أردته، كما أن الحداد الذي استشرته كان يعتقد أن صنعه ليس بالأمر السهل. غير أنني وجدت أداة ميكانيكية فرنسية تدعى بالفخ، وقد كانت بدائية جداً وغير عملية ولم تؤد لنا أي خدمة حتى الآن. وأنا أعتقد أنه بوجود أفخاخ مناسبة من السهل الإمساك بهذه الوحوش البرية. بنات آوى كثيرات جداً بالطبع. وقبيل غروب الشمس تنطلق في جميع الاتجاهات بعوائها المميز، وفي أغلب الأحيان تقترب جداً من مخيمنا".
مسارح جدارا
ويصف الرحالة الأميركي وضع المسارح الرومانية الثلاثة التي رآها في المنطقة: "إن مسرحين واسعين كذينك الموجودين في جدارا (غدارة) قد يبدوان كافيين للمنطقة كلها، لكن يوجد في الحمة مسرح خاص بها، إضافة إليهما. ورغم أن هذا لم يكن كبيراً فإنه كان بنياناً جميلاً يتجه نحو الشمال الشرقي وترتفع على جوانبه عشرون صفاً من المقاعد، لا تزال أربعة عشر منها كاملة. ويبدو أن التلة التي بنى فيها كانت اصطناعية في جزء منها، وعلى الجانب المواجه للبلدة، والذي كان يشكل ـ مؤخرة المسرح، كانت توجد منصات وأعمدة، وهناك بعض الأدلة تعزز الاعتقاد بأن سلسلة من الدرجات كانت تتجه صعوداً من هنا إلى المسرح. والكتل البازلتية التي كانت الأرض أمام المسرح مرصوفة بها ما زالت باقية في أماكنها ومغطاة جزئياً بالتراب والأعشاب.
لو أمكن أن يعاد بناء الحمة لأصبحت واحداً من أكثر المنتجعات جاذبية في سورية، وربما في العالم كله.. سفح التلة أو الجبل ما بين الحمة وأم قيس، أو ما بين الينابيع الحارة وجدارا (غدارة) نفسها شديد الانحدار ـ في جزء من الطريق على الأقل ـ كما بينت من قبل، ولمسافة نصف ميل تحت القمة يكاد المرء يستطيع أن يقول إن سطح الأرض مغطى بالأعمدة وكتل الأحجار التي تدحرجت من الخرائب في الأعلى. غير أن موقع المكان هو الذي سحرني أكثر. فالمنظر ليس شاسعاً فقط بل إنه جميل ورائع. إذ إنه كان بإمكان المتفرجين وهم في مقاعدهم في المسرح الغربي أن يطلوا على أجمل جزء من فلسطين. فهناك خمسة حصون كبيرة على مرمى البصر، والمنطقة الغنية بالمدن والقرى بكاملها، من جبل الشيخ حتى أريحا تقريباً، كانت مبسوطة أمامهم، وقريباً من أقدامهم كان بحر الجليل الذي تعلوه المراكب وتحيط به الأراضي الزراعية والحياة".
في قرية العيون
بعد ذلك يصف منطقة فيق فيقول: "على مسافة قريبة إلى الشرق، وكذلك على حافة الهضبة، خربة صغيرة تدعى العيون. وتتكون الخربة من بضعة بيوت حديثة، وبعض البقايا من مبان أقدم، وأحجار مربعة وأقطع من أبواب وعتبات أبواب علوية، وكلها من البازلت. ويقول العرب إن النوافير، أي العيون، "تحتها بقليل"، ولكن هذا غير دقيق على الإطلاق. غير أننا علمنا أنها غير بعيدة جداً. وإذا ما ذهب المرء شمالاً من العيون يصبح وادي الشومر على اليمين. والهضبة الكبيرة خصبة وخالية بمعظمها من الصخور، ولون تربتها أحمر قاتم مثل معظم الأجزاء الخصبة من باشان. وكانت قطعان من الأغنام والماعز وقطعان من الأبقار متناثرة في اتجاهات مختلفة على السهل الواسع ومعها رعيانها بطبيعة الحال، في حين أن عدداً من الرجال كانوا يحرثون الأرض في بعض الأجزاء. وعلى بعد خمسين دقيقة من العيون يصل المرء إلى كفر حارب، وهي قرية إسلامية على الطرف الغربي للهضبة التي وصفتها قبل قليل. لكن على مسافة ميل أو أكثر قبل الوصول إلى القرية يشاهد المرء بحيرة طبرية، وهي في هذا الفصل جميلة بما يفوق الوصف عندما تشاهد من النقطة التي ذكرتها للتو.
في الحدائق والحقول القريبة من القرية يوجد تين الصبار بوفرة كبيرة وهو ذو حجم كبير، وهناك بعض أشجار الخروب مع بعض أشجار الزيتون القديمة جداً. وهناك آثار كثيرة، ومن الواضح أن المكان كان يتمتع بالثراء والأهمية في الأزمة السابقة. هناك عدة نقوش (كتابات) كوفية بين الآثار، ومعصرة كبيرة أو أكثر لعصر الزيتون.
قبل الوصول إلى هذه القرية، يرى المرء قمة حادة، تحت كتف الجبل مباشرة، إنها بعض الخرائب التي تدعى الكواير. وربما كانت، فيما مضى، مكاناً صغيراً محصناً أو برج مراقبة، لأن الناس يطلقون عليها اسم القلة.
على بعد نصف ساعة بعد كفر حارب، وتحت مستوى السهل الذي تقع عليه القرية بقليل، توجد الجاموسية. وهي حرف جبلي منخفض أمامنا يسير الطريق الذي يقود إلى الحصن بمحاذاتها. ومن هذه النقطة يحتاج المرء إلى مسير دقيقتين أو ثلاث دقائق ليصل إلى بوابة المدينة، وهي مهيبة وتحرسها أبراج ضخمة، والقمة التي تنتصب عليها هذه القلعة ـ المدينة الشهيرة تنحدر بحدة، على نحو عمودي تقريباً، في الجانبين الشمالي والجنوبي، وكذلك في الطرف الغربي، في حين أن الجانب الشرقي متصل بالجبل بحرف أو عنق ضيق فقط، وهو الذي أطلق عليه اسم الجاموسية سابقاً. يمتد شارع عريض من البوابة التي ذكرتها للتو حتى أقصى الطرف الغربي من المكان، ولو استمر خط امتداده لمر عبر المجدل على الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية. الدليل الذي استأجرناه بينما كنا نقوم بدراساتنا في الحصن من كفر حارب، وقد أثبت أنه ذو دراية بصورة غير عادية. إنه لم يرافق أي أجانب من قبل. ولذا فإن حسه الآثاري فطري وليس مكتسباً. لقد كان يعرف الخرائب تماماً وقد أظهرت أسئلته وحديثه أنه قد لاحظ الكثير من الأشياء الموجودة هناك وقد فكر بشأن استخداماتها".
عواصف
يرصد ميرِل عدة عواصف في منطقة بحيرة طبريا، وربما هي إشارة إلى العاصفة التي صادفها السيد المسيح هنا قبل 2000 عام وهدأها: "في الوادي إلى الغرب من فيق هناك بساتين كبيرة ومزدهرة من أشجار الزيتون تغطي فدادين كثيرة. ويضم المكان خرائب شاسعة كما توجد نقوش كوفية عديدة جداً.. وفي خلال إحدى الزيارات، عندما وصلنا إلى حافة الهضبة المطلقة على بحيرة طبرية، رأينا عاصفة كانت تتجمّع في الجنوب الغربي وتغطي وتظلم الطرف الأدنى من البحيرة. والكتلة السوداء من الغيوم لم تملأ السماء في تلك المنطقة فقط بل بدت وكأنها تلامس الأرض. لقد اختفى وادي الأردن بكامله والتلال الواقعة إلى الغرب عن البصر عندما زحفت العاصفة باتجاه الشمال إلى بحر الجليل. وهناك بدت وكأنها تتوقف، في حين كان البرق يتلاعب على أمواج البحيرة المخيفة المظلمة، كما أجفلنا قصف الرعد بصوته المدوي. لقد كان المنظر مهولاً لكنه لم يدم طويلاً. إذ بدأت الكتلة تتحرك وترتفع وترتفع وسرعان ما عاود العالم المدفون تحتها الظهور، في الوقت الذي كان فيه ضوء الشمس من خلال فرجات الغيوم يسقط على قمم الجبال والوادي ثانية.
في وقت متأخر من اليوم الذي أشرت إليه تواً، وبينما كنت أعمل بالقرب من فيق، داهمتنا عاصفة أخرى وأسرعنا إلى الخرائب طلباً للمأوى. وكنا ممتنين للحصول على ملجأ من عنفها. واتضح هطول زخات متتالية، لقد كان مطراً غزيراً مع رعد يصم الآذان ثم يليه مطر وبرد.
كان أحد ساسة خيلنا يعرف رجلاً ميسوراً في المكان يدعى محمد ـ وهو اسم لا لبس فيه مثل سميث وجونز عندنا ـ ففاجأناه بزيارة تخلو من الكياسة. كان يصلح محراثاً، وكان واضحاً أنه لم يكن مسروراً لوصولنا. لكن لم تكن في اليد حيلة وسرعان ما تأقلم مع مما لا مفر منه وعاملنا بأدب. وبعد أن تم إصلاح المحراث أرسله مع صبي وكرّس نفسه لطلباتنا. لقد أصبح الطقس بارداً وكنا مبتلين ونحتاج إلى المزيد من النار.
وهكذا كومت عيدان الحطب فوق الفحم في وسط الغرفة، وقبل مضي وقت طويل ظننت أننا سنكون مجبرين على المغادرة بسبب الدخان. إن عنصر الدخان في الضيافة العربية غير ممتع. لكننا في النهاية أحسنا بالدفء وجفت ملابسنا، وقام ضيفنا بصنع القهوة لنا، وهذه لم ندفع ثمنها بالطبع. توقفت العاصفة قرب حلول الليل وعدنا إلى مخيمنا".
ذوبان السكر
ويشير ميرِل إلى وجود كتابات نبطية في المنطقة: "إن مواد البناء في كفر حارب بازلتية، كما وجدنا هنا عدة نقوش نبطية. وفي حين أن معظم الهضبة الممتدة إلى الشرق خالية من الحجارة، فإن الصخور البازلتية تبرز على طول حافة النجد حيث ينحدر إلى الغرب لمسافة ميل أو أكثر، وعلى هذا المهاد من الصخور بنيت كفر حارب".
ويضيف: "الخرائب في فيق محفوظة بحالة جيدة. وقد أبلغنا الناس أن فيق كانت تملك سابقاً خمسمائة زوج من الثيران، في حين أنه لا يوجد الآن خمسمائة شخص ككل. فالحكومة العثمانية قد دمرت المكان".
ويروي الرحالة الأميركي قصة طريفة عن أحد المكارية الذين كانوا يرافقونهم فيقول: "لقد وجدنا، عند عودتنا من فيق، أن أحد بغالتنا (سائس البغل) الذي كنا قد أرسلناه في وقت مبكر من الصباح إلى طبرية قد عاد، لكن من الواضح أنه كان في مزاج سيئ رغم أنه طيب المعشر بشكل عام، وكان منتشياً جداً قبل الانطلاق بمهمته، وذلك لأننا اخترناه لتلك المهمة. سرعان ما عرفنا سبب كآبته. فمن بين المؤن التي كان سيحضرها كانت توجد كمية من السكر، لكن عندما كان يعبر النهر في طريق عودته تعثر بغله وسقط لأن الماء كان أعلى بكثير منه عندما عبرنا النهر قبل بضعة أيام، وخلال محاولاته لإنقاذ نفسه وحيوانه. تركت السلع التي يحملها حتى الأخير، وعندما استعادها كان السكر قد ذاب.
إن الشيخ موسى، الذي ينتمي إلى إحدى القبائل في هذا الوادي والذي خدمنا بإخلاص منذ وصولنا، يستحق الذكر بسبب ملامحه. لقد تجاوز منتصف العمر بقليل، وهو مرح وعلى استعداد لإرضائنا على الدوام، لكن تفكيره بالجغرافيا والآثار أقل بكثير من تفكيره بالحصان".