يُقدِّم "يوم ببيروت" (2017)، لنديم تابت (قريباً في الصالات اللبنانية)، الممثلة منال عيسى، في دورها السينمائيّ الـ 3، بعد "باريسية" (2015) لدانيال عربيد، و"نوكتوراما" (2016) للفرنسي برتران بونيلّو. الشابّة المتخصّصة بالهندسة، تنتقل مع عربيد إلى عالم السينما، مُقدِّمةً دوراً متين الصُنعة، بأداء لافت للانتباه: مطلع تسعينيات القرن الـ 20، تُقرِّر لينا مغادرة بيروت وأهلها، لمتابعة دراسة جامعية في باريس، فتلتقي أناساً مختلفي الهواجس والأمزجة والمشاعر، وتخوض اختبارات تدفعها إلى ممارسة أنماطٍ شتّى من الحياة اليومية.
في "نوكتوراما"، تنتقل إلى صنفٍ آخر من الاشتغال: سابرينا منتمية إلى مجموعة شبابية، ترغب في إثارة البلبلة والذعر في باريس، بتحقيق عملية تخريبية في متجر كبير. لكن وقائع العملية، و"احتلال" المجموعة للمتجر طوال الليل، تكشف كلّها حميميات أفرادٍ يعانون آلاماً ذاتية مختلفة.
في الفيلمين، تؤكّد منال عيسى حِرفية ما في أدائها شخصيتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى، وامتلاكاً عميقاً لمفردات التمثيل، رغم تمسّكها بملامح متشابهة في الوجه والعينين وحركة الجسد ونبرة الصوت والتعبير الصامت (أحياناً)، من دون أن يعني هذا تكراراً، إذْ تُتقن عيسى تحويل المشترك في ملامحها إلى اختبار أدائيّ، يُتيح لها التقدّم خطوات متواضعة باتّجاه البحث عن مقوّمات جديدة، تمنحها لتلك الملامح، بهدف تطويرها.
في جديدها مع نديم تابت، تلتقي الممثلة يمنى مروان، الأكثر حضوراً منها في نتاجات سينمائية لبنانية، منذ "الوادي" (2014) لـغسان سلهب. المقارنة بينهما غير صائبة. الاختبارات مختلفة، تماماً كالمسار السينمائي الخاصّ بكلّ واحدة منهما. فالتنويع، الذي اختبرته مروان، يُتيح لها تمريناً أعمق وأكبر، خصوصاً أنها متعاونة مع سينمائيين لبنانيين غير متشابهين البتّة في أساليبهم وأمزجتهم ومشاريعهم. اشتغالها مع الأردني يحيى العبد الله، في "الطابق الخامس، غرفة رقم 52" (2015)، مثلاً، تجربة تتيح لها اختبار أداء يعتمد، كلّياً، على حركة الجسد، المطالَب بأن يكون صوت الشخصية وصورتها، في آن واحد، من دون أيّ كلامٍ.
بهذا، تلفت يمنى مروان الانتباه إلى جمالية صمتها، المعبّأ بكمٍّ هائل من الانفعالات والرغبات والأهواء. مع يحيى العبد الله، المُشارك في التمثيل أيضاً، ينتبه المُشاهد السينمائيّ إلى العوالم المخبّأة في الصمت، والمنفتحة على روحٍ وذاتٍ وتركيبةٍ نفسية، لشخصية شابّة تلتقي رجلاً، وتمضي ليلة واحدة معه، وتغادر في الصباح التالي، "كأنّ شيئاً لم يكن". لكن التمعّن في مسار الحبكة (25 د.) يكشف نقيض شعورٍ كهذا: هناك أشياء كثيرة حاصلة بهدوءٍ، يُخفي في أعماقه غليان المشاعر والأهواء.
لكن يُمنى مروان تبدو، في أفلامٍ أخرى لها، كأنها مُصابة بجمالية الصمت، وإنْ تتطلّب أدوارٌ منها استخدام الكلام لقولٍ أو لتعليقٍ. مع هذا، وفي المسافات الفاصلة بين حواراتها مع آخرين، ينطق الصمت معها بأجمل تعبير أو بوح. في "صبمارين" (2016، 21 د.) لمونيا عقل، تغرق هلا (مروان) في مدينة مليئة بالنفايات المكدَّسة، وتعاند التلوّث والعَفَن والنتانة ببقائها في منزلها المنهار تحت وطأة الأكياس الوسخة، وتواجه مغادرة الجميع بإصرارها على البقاء، وتفتح أبواب ماضيها داخل ملهى مُغلق، كي تُمهِّد لنهاية مسارٍ مصطدمٍ بمزيد من الأسئلة المعلَّقة.
هذا الصمت، الممتد من غيابٍ مطلق للكلام إلى تمكِّن أدائيّ متكامل في نطق بعض مفرداته المكثَّفة، يظهر في "الوادي" بما يتلاءم وحساسية الشخصية التي تؤدّيها. فماريا تبقى، طوال الوقت، أكثر أفراد الجماعة المنتمية إليها عزلة وسكينة ظاهرة وميلاً إلى مناكفة الجميع بملامحها التي تُغيِّب غليانها الداخلي. والملامح تشي بحزنٍ وألمٍ وتخبّط في ارتباكات العيش، تماماً كتلك التي تظهر في شخصيتي هلا (صبمارين) وليلى (الطابق الخامس، غرفة رقم 52)، من دون أدنى تشابهٍ بينها، إذْ تحول حرفية الأداء دون الوقوع في فخّ التكرار.
مع ريتا حايك ـ التي تخطو خطوة سينمائية أولى في مسارها المهني (التلفزيوني والمسرحي)، في "القضية رقم 23" (2017) ـ يغيب الصمت كلّياً، لمصلحة حيوية موزّعة بين حماسة أم تنتظر مولودها الأول، وضغوط الخراب الفظيع، الذي ينشره حولَها صراعُ زوجها، القواتي المسيحي اللبناني، مع رئيس العمّال الفلسطيني. التعمّق الأدائي في أدوارٍ مسرحية سببٌ في تمتين حضورها السينمائيّ، في شخصية شيرين، زوجة القواتي، التي تُسرف في محاولة إنقاذ "عائلتها" من ورطة التكبّر والعصبيّة والعدائية، والتي تعمل على إتاحة مناخٍ أفضل لمولودة منتظرة. لكن لغة المسرح مختفية أمام الكاميرا السينمائية، المنسجمة مع وجه الممثلة وتحرّكاتها المختلفة، وانفعالاتها المتناقضة فيما بينها أحياناً، لكن المائلة بشدّة إلى ذاك التوتر والغضب، اللذين تُقدّمهما حايك بعفوية متأتية من تعمّق درامي وجمالي بالشخصية وعلاقاتها المختلفة.
أما ألكسندرا قهوجي، فتحضر على الشاشة الكبيرة في 6 أفلامٍ، خلال 12 عاماً، آخرها روائيّ قصير بعنوان "الغران ليبانو" (2017، 16 د.) لمونيا عقل والكوستاريكيّ نيتو فيلاّلوبوس. اختباراتها الأدائية متنوّعة، منذ "يوم آخر" (2005) لجوانا حاجي توما وخليل جريج. لكن القلّة تنوّعٌ، والتنوّع دافعٌ إلى تمرينٍ يحثّ الممثلة على تبديل أدوار، تتيح لها إحداث فرق بين شخصية وأخرى، في أفلامٍ تجوب العوالم الداخلية للفرد، وإنْ في مسارات مختلفة. وابتعادها عن التلفزيون، إضافة إيجابية لها، تحصِّن أداءها السينمائيّ، وتجعله أسلس في اختبار نفسياتٍ مختلفة لشخصيات، غالبيتها هامشية، في بيئات إنسانية واجتماعية عديدة، حيث يتشكّل القلق والارتباك، وحيث تتفوّق قهوجي في التعبير عنهما بأنماطٍ متنوّعة.
والهامش مصنوعٌ بشفافية أدائية، تتيح لكلّ شخصية حضورا أقوى، أحياناً، من شخصيات محورية. التمثيل جزءٌ أساسيّ في تحقيق هذا الحضور، إذْ تحوِّل ألكسندرا قهوجي أدوارها إلى مرايا تكشف، أو تساهم في كشف مخبّأ أو مبطّن، كما في "يا نوسك" (2010) لإيلي خليفة، و"مشوار" (2012) للسوري ميّار الرومي، و"فيلم كتير كبير" (2015) لميرجان بو شعيا، و"ورقة بيضا" (2016) للفرنسي هنري بارجيس.
اقــرأ أيضاً
في الفيلمين، تؤكّد منال عيسى حِرفية ما في أدائها شخصيتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى، وامتلاكاً عميقاً لمفردات التمثيل، رغم تمسّكها بملامح متشابهة في الوجه والعينين وحركة الجسد ونبرة الصوت والتعبير الصامت (أحياناً)، من دون أن يعني هذا تكراراً، إذْ تُتقن عيسى تحويل المشترك في ملامحها إلى اختبار أدائيّ، يُتيح لها التقدّم خطوات متواضعة باتّجاه البحث عن مقوّمات جديدة، تمنحها لتلك الملامح، بهدف تطويرها.
في جديدها مع نديم تابت، تلتقي الممثلة يمنى مروان، الأكثر حضوراً منها في نتاجات سينمائية لبنانية، منذ "الوادي" (2014) لـغسان سلهب. المقارنة بينهما غير صائبة. الاختبارات مختلفة، تماماً كالمسار السينمائي الخاصّ بكلّ واحدة منهما. فالتنويع، الذي اختبرته مروان، يُتيح لها تمريناً أعمق وأكبر، خصوصاً أنها متعاونة مع سينمائيين لبنانيين غير متشابهين البتّة في أساليبهم وأمزجتهم ومشاريعهم. اشتغالها مع الأردني يحيى العبد الله، في "الطابق الخامس، غرفة رقم 52" (2015)، مثلاً، تجربة تتيح لها اختبار أداء يعتمد، كلّياً، على حركة الجسد، المطالَب بأن يكون صوت الشخصية وصورتها، في آن واحد، من دون أيّ كلامٍ.
بهذا، تلفت يمنى مروان الانتباه إلى جمالية صمتها، المعبّأ بكمٍّ هائل من الانفعالات والرغبات والأهواء. مع يحيى العبد الله، المُشارك في التمثيل أيضاً، ينتبه المُشاهد السينمائيّ إلى العوالم المخبّأة في الصمت، والمنفتحة على روحٍ وذاتٍ وتركيبةٍ نفسية، لشخصية شابّة تلتقي رجلاً، وتمضي ليلة واحدة معه، وتغادر في الصباح التالي، "كأنّ شيئاً لم يكن". لكن التمعّن في مسار الحبكة (25 د.) يكشف نقيض شعورٍ كهذا: هناك أشياء كثيرة حاصلة بهدوءٍ، يُخفي في أعماقه غليان المشاعر والأهواء.
لكن يُمنى مروان تبدو، في أفلامٍ أخرى لها، كأنها مُصابة بجمالية الصمت، وإنْ تتطلّب أدوارٌ منها استخدام الكلام لقولٍ أو لتعليقٍ. مع هذا، وفي المسافات الفاصلة بين حواراتها مع آخرين، ينطق الصمت معها بأجمل تعبير أو بوح. في "صبمارين" (2016، 21 د.) لمونيا عقل، تغرق هلا (مروان) في مدينة مليئة بالنفايات المكدَّسة، وتعاند التلوّث والعَفَن والنتانة ببقائها في منزلها المنهار تحت وطأة الأكياس الوسخة، وتواجه مغادرة الجميع بإصرارها على البقاء، وتفتح أبواب ماضيها داخل ملهى مُغلق، كي تُمهِّد لنهاية مسارٍ مصطدمٍ بمزيد من الأسئلة المعلَّقة.
هذا الصمت، الممتد من غيابٍ مطلق للكلام إلى تمكِّن أدائيّ متكامل في نطق بعض مفرداته المكثَّفة، يظهر في "الوادي" بما يتلاءم وحساسية الشخصية التي تؤدّيها. فماريا تبقى، طوال الوقت، أكثر أفراد الجماعة المنتمية إليها عزلة وسكينة ظاهرة وميلاً إلى مناكفة الجميع بملامحها التي تُغيِّب غليانها الداخلي. والملامح تشي بحزنٍ وألمٍ وتخبّط في ارتباكات العيش، تماماً كتلك التي تظهر في شخصيتي هلا (صبمارين) وليلى (الطابق الخامس، غرفة رقم 52)، من دون أدنى تشابهٍ بينها، إذْ تحول حرفية الأداء دون الوقوع في فخّ التكرار.
مع ريتا حايك ـ التي تخطو خطوة سينمائية أولى في مسارها المهني (التلفزيوني والمسرحي)، في "القضية رقم 23" (2017) ـ يغيب الصمت كلّياً، لمصلحة حيوية موزّعة بين حماسة أم تنتظر مولودها الأول، وضغوط الخراب الفظيع، الذي ينشره حولَها صراعُ زوجها، القواتي المسيحي اللبناني، مع رئيس العمّال الفلسطيني. التعمّق الأدائي في أدوارٍ مسرحية سببٌ في تمتين حضورها السينمائيّ، في شخصية شيرين، زوجة القواتي، التي تُسرف في محاولة إنقاذ "عائلتها" من ورطة التكبّر والعصبيّة والعدائية، والتي تعمل على إتاحة مناخٍ أفضل لمولودة منتظرة. لكن لغة المسرح مختفية أمام الكاميرا السينمائية، المنسجمة مع وجه الممثلة وتحرّكاتها المختلفة، وانفعالاتها المتناقضة فيما بينها أحياناً، لكن المائلة بشدّة إلى ذاك التوتر والغضب، اللذين تُقدّمهما حايك بعفوية متأتية من تعمّق درامي وجمالي بالشخصية وعلاقاتها المختلفة.
أما ألكسندرا قهوجي، فتحضر على الشاشة الكبيرة في 6 أفلامٍ، خلال 12 عاماً، آخرها روائيّ قصير بعنوان "الغران ليبانو" (2017، 16 د.) لمونيا عقل والكوستاريكيّ نيتو فيلاّلوبوس. اختباراتها الأدائية متنوّعة، منذ "يوم آخر" (2005) لجوانا حاجي توما وخليل جريج. لكن القلّة تنوّعٌ، والتنوّع دافعٌ إلى تمرينٍ يحثّ الممثلة على تبديل أدوار، تتيح لها إحداث فرق بين شخصية وأخرى، في أفلامٍ تجوب العوالم الداخلية للفرد، وإنْ في مسارات مختلفة. وابتعادها عن التلفزيون، إضافة إيجابية لها، تحصِّن أداءها السينمائيّ، وتجعله أسلس في اختبار نفسياتٍ مختلفة لشخصيات، غالبيتها هامشية، في بيئات إنسانية واجتماعية عديدة، حيث يتشكّل القلق والارتباك، وحيث تتفوّق قهوجي في التعبير عنهما بأنماطٍ متنوّعة.
والهامش مصنوعٌ بشفافية أدائية، تتيح لكلّ شخصية حضورا أقوى، أحياناً، من شخصيات محورية. التمثيل جزءٌ أساسيّ في تحقيق هذا الحضور، إذْ تحوِّل ألكسندرا قهوجي أدوارها إلى مرايا تكشف، أو تساهم في كشف مخبّأ أو مبطّن، كما في "يا نوسك" (2010) لإيلي خليفة، و"مشوار" (2012) للسوري ميّار الرومي، و"فيلم كتير كبير" (2015) لميرجان بو شعيا، و"ورقة بيضا" (2016) للفرنسي هنري بارجيس.