لم تلفتني أفلام شارلي شابلن التي كانت تُعرض على شاشاتنا عندما كنت صغيرة، ربما لأنها كانت أفلاماً عصيّة على الفهم لطفلة يلزمها قراءة التعليقات المكتوبة المرافقة للفيلم، أو لأنّها مقدّمة بطريقة صامتة بالأبيض والأسود، فلا تحوي أيّ شكل من أشكال المُتع لجيل فتح عينيه على التلفزيون الملوّن الناطق.
بعدها شاءت الصدف أن أدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، خلال سنوات دراستي للنقد والأدب المسرحي، لفت انتباهي بعض من طلبة التمثيل الذين يهتمون بتقليد شخصية (كاراكتر) شارلي شابلن من حيث الشكل الخارجي من دون تحميل الشخصية عمقها المضموني. وحين اتجهت لدراسة السينما، وبدأت باستكشف هذا العالم الساحر، لفت نظري أيضاً عدد الفنانين الذين حاولوا تقليد شخصية شارلي شابلن بشكل مباشر أو غير مباشر؛ سواء اعترفوا بذلك صراحة أو لم يعترفوا.
كل ذلك لم يزد من إعجابي بشارلي شابلن. والسبب، بطبيعة الحال، هو عدم مشاهدتي أفلامه. كان قبل عام 2009، حين قامت وزارة الثقافة في سورية بنشر كتاب حول أفلام شارلي شابلن "سيناريوهات وكتابات للأفلام"، ذلك الكتاب كان نقطة تحوّلي المتأخرة جداً تجاه هذا المبدع الذي كتب وأخرج ومثّل وأنتج معظم أفلامه.
شارلز سنسر شابلن، هو "فارس الضحك والحزن، فنان الحلم المضيء والهجاء الغاضب" كما يقول عنه أ. كوكاركين في مقدمه الكتاب. ويقول أيضاً "إن العديد من النجوم يقطعون طريقهم بمختلف الحجوم والسطوع في قبة الفلك السينمائية، البعض يومئ وينطفئ بسرعة، والبعض الآخر يترك وراءه أثراً طويلاً"، في إشارةٍ منه إلى شارلي شابلن.
لن نفهم تلك الكلمات والعبارات السابقة، إلا لو قرأنا السيناريوهات التي اختارها الكتاب بعناية، خلال رحلة شارلي شابلن الفنية التي امتدت على نحو 25 سنة، بدأت منذ عام 1914 الذي قدم خلاله فيلمه الأول "أطفال يتسابقون في فينيس"، استمرّت حتى آخر أفلامه "الديكتاتور" في عام 1940.
ما بين أفلام سينمائية صامته وناطقة، تنتاب القارئ حالة من الانبهار لتلك الطريقة التي كتب وعبّر وانتقد من خلالها شابلن كافة نواحي المجتمع بشكل سلس وفكاهي، على الرغم من صعوبة الأمر. في البداية، اعتمد على الجمل المكتوبة كنوع من الشرح، وتحوّلت لاحقاً مع السينما الناطقة إلى جمل يقوم بنطقها صوت بشري لشرح الموقف.
لم تأت تلك السيناريوهات المختارة بعناية في قسم الأفلام الصامتة من الكتاب بشكل ساذج، رغم أن شابلن نفسه كان يعتبرها كذلك في بدايته الفنية. وتحدّث مرةً عن الشخصيات مفسّراً "أن الشخصية التي أُمثلها تغيرت، إذ صارت أكثر تراجيدية وحزناً وأكثر ترتيباً بكثير، فقدت استعراضيتها وأصبحت أكثر عقلانية، أصبحت أقلّ إقناعاً، ولكن أعمق من حيث الجوهر". كانت بداية كل فيلم صامت تبدأ بعبارة مكتوبة، يحاول من خلالها شابلن أن يُهيّئ المشاهد للفكرة التي يود طرقها، على سبيل المثال في فيلمه الصامت الأشهر "الأزمنة الحديثة"، كتب في بداية الفيلم "القصة حول الصناعة والهمة الشخصية والنزعة الإنسانية التي تسعى إلى البحث عن السعادة"، في إشارة مباشرة منه إلى الموضوع الذي سيدور حوله الفيلم. ابتدع شابلن لنفسه وسائله الخاصة، في ظلّ فقر التقنيات الفنية حينها، حتى إن فيلمه المبكر نسبيا "السيرك" 1928 حقق نجاحاً، فحصد عنه جائزة الأوسكار الفخرية.
ذاع صيت شابلن، ولمع نجمه، ليس فقط في أميركا، وإنما في كل بلاد العالم. وساهمت أرباحه في إنتاج وإخراج عدد كبير من أفلامه التي كتبها بنفسه، وبعد ذلك أسس شركة خاصة به مع شريكه دوغلاس فيربانكس.
يقول أ. كوكاركين "إن شابلن استوعب في نتاجه الإبداعي تاريخ الفن السينمائي وموسوعته، وكل المراحل الأساسية لتطوره في الغرب". من أشهر أفلامه "السيرك، أضواء المدينة، الأزمنة الحديثة، ملك في نيويورك، والديكتاتور، وهو الفيلم الذي أنتجه في عام 1940 وجسّد فيه شخصية أدولف هتلر، ولكن بطريقة كوميدية هزلية. كان هذا الفيلم، بالإضافة إلى فيلمه اللاحق "المسيو فيردو" 1947، والعبارة التي قالها خلال الحرب العالمية الثانية "إن الانتصار في الحرب مرهون بالتعاون الكامل مع روسيا، وإيقاف الحرب ضد الشيوعيين"، سبباً لإدانة المخابرات الأميركية له ومغادرته أميركا التي رفض حمل جنسيتها طيلة فترة إقامته فيها، فترة تجاوزت الأربعين عاماً.
بالإضافة إلى أعمال شابلن، اشتهرت شخصيته كفنان، وحياته كإنسان، ومواقفه السياسية ككاتب، فكُتبت عنه مئات المؤلفات التي تروي سيرته الذاتية ورحلة كفاحة ونجاحه وحياته العائلية. كما كانت له مواقف نبيله من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والذي شاركت فيه بريطانيا، الدولة التي عاش ومات وهو يحمل جنسيتها. هو أمرٌ دفع بالمخرج السينمائي المصري كامل التلمساني إلى كتابة كتاب عن شارلي بعنوان "عزيزي شابلن". وتُرجم إلى العربية كتاب عنه بعنوان "هل أنت شيوعي يا مستر شابلن؟" ترجمه وحرره المصري رمسيس عوض، وحمل عنواناً فرعياً "قصة شارلي شابلن مع المخابرات الأميركية.. وثيقة تاريخية".
كما أخرج الإنجليزي ريتشارد أتينبورو فيلماً سينمائياً عنه اعتُبر واحداً من أهم الأفلام السينمائية الدرامية، وكان من أداء المبدع روبرت داوني جونيور، وشيّدت بريطانيا تمثالاً له في عام 1981 على بعد خطوات من تمثال الأديب والشاعر الإنجليزي المشهور شكسبير.
صباح ليلة الميلاد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1977، فارق شارلي شابلن الحياة عن عمر يناهز الـ88 سنةً، تاركاً وراءه ثروة من المال والأبناء والأفلام قُدّرت بأكثر من 80 فيلماً، وحظي بجنازة عظيمة حضرها ما يُقارب الثلاثة ملايين شخص. ما زلنا حتى يومنا هذا نتكلم عن هذا المبدع الذي ما زلت ذكراه حاضرة في قلوب ومشاعر كل من عاصره، وسيبقى لمائة عام أُخرى مدرسة يستقي منها الكثيرون ويستفيدون من فنونها.
بعدها شاءت الصدف أن أدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، خلال سنوات دراستي للنقد والأدب المسرحي، لفت انتباهي بعض من طلبة التمثيل الذين يهتمون بتقليد شخصية (كاراكتر) شارلي شابلن من حيث الشكل الخارجي من دون تحميل الشخصية عمقها المضموني. وحين اتجهت لدراسة السينما، وبدأت باستكشف هذا العالم الساحر، لفت نظري أيضاً عدد الفنانين الذين حاولوا تقليد شخصية شارلي شابلن بشكل مباشر أو غير مباشر؛ سواء اعترفوا بذلك صراحة أو لم يعترفوا.
كل ذلك لم يزد من إعجابي بشارلي شابلن. والسبب، بطبيعة الحال، هو عدم مشاهدتي أفلامه. كان قبل عام 2009، حين قامت وزارة الثقافة في سورية بنشر كتاب حول أفلام شارلي شابلن "سيناريوهات وكتابات للأفلام"، ذلك الكتاب كان نقطة تحوّلي المتأخرة جداً تجاه هذا المبدع الذي كتب وأخرج ومثّل وأنتج معظم أفلامه.
شارلز سنسر شابلن، هو "فارس الضحك والحزن، فنان الحلم المضيء والهجاء الغاضب" كما يقول عنه أ. كوكاركين في مقدمه الكتاب. ويقول أيضاً "إن العديد من النجوم يقطعون طريقهم بمختلف الحجوم والسطوع في قبة الفلك السينمائية، البعض يومئ وينطفئ بسرعة، والبعض الآخر يترك وراءه أثراً طويلاً"، في إشارةٍ منه إلى شارلي شابلن.
لن نفهم تلك الكلمات والعبارات السابقة، إلا لو قرأنا السيناريوهات التي اختارها الكتاب بعناية، خلال رحلة شارلي شابلن الفنية التي امتدت على نحو 25 سنة، بدأت منذ عام 1914 الذي قدم خلاله فيلمه الأول "أطفال يتسابقون في فينيس"، استمرّت حتى آخر أفلامه "الديكتاتور" في عام 1940.
ما بين أفلام سينمائية صامته وناطقة، تنتاب القارئ حالة من الانبهار لتلك الطريقة التي كتب وعبّر وانتقد من خلالها شابلن كافة نواحي المجتمع بشكل سلس وفكاهي، على الرغم من صعوبة الأمر. في البداية، اعتمد على الجمل المكتوبة كنوع من الشرح، وتحوّلت لاحقاً مع السينما الناطقة إلى جمل يقوم بنطقها صوت بشري لشرح الموقف.
لم تأت تلك السيناريوهات المختارة بعناية في قسم الأفلام الصامتة من الكتاب بشكل ساذج، رغم أن شابلن نفسه كان يعتبرها كذلك في بدايته الفنية. وتحدّث مرةً عن الشخصيات مفسّراً "أن الشخصية التي أُمثلها تغيرت، إذ صارت أكثر تراجيدية وحزناً وأكثر ترتيباً بكثير، فقدت استعراضيتها وأصبحت أكثر عقلانية، أصبحت أقلّ إقناعاً، ولكن أعمق من حيث الجوهر". كانت بداية كل فيلم صامت تبدأ بعبارة مكتوبة، يحاول من خلالها شابلن أن يُهيّئ المشاهد للفكرة التي يود طرقها، على سبيل المثال في فيلمه الصامت الأشهر "الأزمنة الحديثة"، كتب في بداية الفيلم "القصة حول الصناعة والهمة الشخصية والنزعة الإنسانية التي تسعى إلى البحث عن السعادة"، في إشارة مباشرة منه إلى الموضوع الذي سيدور حوله الفيلم. ابتدع شابلن لنفسه وسائله الخاصة، في ظلّ فقر التقنيات الفنية حينها، حتى إن فيلمه المبكر نسبيا "السيرك" 1928 حقق نجاحاً، فحصد عنه جائزة الأوسكار الفخرية.
ذاع صيت شابلن، ولمع نجمه، ليس فقط في أميركا، وإنما في كل بلاد العالم. وساهمت أرباحه في إنتاج وإخراج عدد كبير من أفلامه التي كتبها بنفسه، وبعد ذلك أسس شركة خاصة به مع شريكه دوغلاس فيربانكس.
يقول أ. كوكاركين "إن شابلن استوعب في نتاجه الإبداعي تاريخ الفن السينمائي وموسوعته، وكل المراحل الأساسية لتطوره في الغرب". من أشهر أفلامه "السيرك، أضواء المدينة، الأزمنة الحديثة، ملك في نيويورك، والديكتاتور، وهو الفيلم الذي أنتجه في عام 1940 وجسّد فيه شخصية أدولف هتلر، ولكن بطريقة كوميدية هزلية. كان هذا الفيلم، بالإضافة إلى فيلمه اللاحق "المسيو فيردو" 1947، والعبارة التي قالها خلال الحرب العالمية الثانية "إن الانتصار في الحرب مرهون بالتعاون الكامل مع روسيا، وإيقاف الحرب ضد الشيوعيين"، سبباً لإدانة المخابرات الأميركية له ومغادرته أميركا التي رفض حمل جنسيتها طيلة فترة إقامته فيها، فترة تجاوزت الأربعين عاماً.
بالإضافة إلى أعمال شابلن، اشتهرت شخصيته كفنان، وحياته كإنسان، ومواقفه السياسية ككاتب، فكُتبت عنه مئات المؤلفات التي تروي سيرته الذاتية ورحلة كفاحة ونجاحه وحياته العائلية. كما كانت له مواقف نبيله من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والذي شاركت فيه بريطانيا، الدولة التي عاش ومات وهو يحمل جنسيتها. هو أمرٌ دفع بالمخرج السينمائي المصري كامل التلمساني إلى كتابة كتاب عن شارلي بعنوان "عزيزي شابلن". وتُرجم إلى العربية كتاب عنه بعنوان "هل أنت شيوعي يا مستر شابلن؟" ترجمه وحرره المصري رمسيس عوض، وحمل عنواناً فرعياً "قصة شارلي شابلن مع المخابرات الأميركية.. وثيقة تاريخية".
كما أخرج الإنجليزي ريتشارد أتينبورو فيلماً سينمائياً عنه اعتُبر واحداً من أهم الأفلام السينمائية الدرامية، وكان من أداء المبدع روبرت داوني جونيور، وشيّدت بريطانيا تمثالاً له في عام 1981 على بعد خطوات من تمثال الأديب والشاعر الإنجليزي المشهور شكسبير.
صباح ليلة الميلاد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1977، فارق شارلي شابلن الحياة عن عمر يناهز الـ88 سنةً، تاركاً وراءه ثروة من المال والأبناء والأفلام قُدّرت بأكثر من 80 فيلماً، وحظي بجنازة عظيمة حضرها ما يُقارب الثلاثة ملايين شخص. ما زلنا حتى يومنا هذا نتكلم عن هذا المبدع الذي ما زلت ذكراه حاضرة في قلوب ومشاعر كل من عاصره، وسيبقى لمائة عام أُخرى مدرسة يستقي منها الكثيرون ويستفيدون من فنونها.