واقعية السينمائيّ الدنماركيّ نيكولاس ويندينغ ريفن مُثيرة لنقاشٍ يتناول علاقة المُشَاهِد بالمُشاهَدَة. يُدافع عن آلية عمل "نتفليكس"، لكنه يُحذِّر من خطورة سياسة التوزيع التي تعتمدها. يرى أنْ لا مفرّ من التطوّر، الذي هو جزءٌ من حياة الناس. يقول به في مجالات سينمائية عديدة، إنتاجًا وتوزيعًا ومشاهدة. لكنه يُنبِّه إلى أن طقوسًا قديمة تبقى راسخةً، فهذا قدرٌ أيضًا. للمُشاهدة عنده مكانة أساسية. يتناول واقع الصالات، فيقول إنها ستبقى موجودة دائمًا، رغم أن بعضها سيُقفل أبوابه، وأنّ أخرى جديدة ستُفتَح. هذا لن يُلهيه عن جوهر الحكاية: "عن أية صالة نتحدّث، إذْ يجب أن يكون هناك هدفٌ منها، وعليها أن تكون تجربة قائمة بحدّ ذاتها". لن يُحدِّد التفاصيل. لن يغوص في متاهة التنظير. كلماتٌ قليلة تكفي لفهم الواقع.
لن يحتاج المرء إلى صالة سينمائية تمنحه مُشاهدةً يُمكنه الحصول عليها في منزله، بفضل التطوّر التكنولوجي. لن يخرج المرء من منزله إلى صالة سينمائية، إنْ تُقدِّم له التكنولوجيا الحديثة أدوات مُشاهدة مريحة داخل جدران منزله: "يُمكنكَ الحصول على أفضل تجهيز صوتي وأفضل صورة ممكنة وأنتَ في منزلك"، يقول ريفن مشيرًا، في الوقت نفسه، إلى أنّ هذا "إشارة إنذار". الحلّ؟ لن يتفوّه بمشروع متكامل. يقول: "على صالة السينما أن تبحث عن كيفية إنتاج قِيَم أكثر. يجب على ذهابِك إلى صالة السينما أن يمنحك ما هو أكثر مما يمنحك إياه بقاؤك في منزلك" (المجلة السينمائية الفرنسية La Septieme Obsession، العدد 21، مارس/آذار ـ إبريل/نيسان 2019).
الأسئلة المنبثقة من تحديدات مختصرة كهذه عديدة ومتشعّبة. يعترف نيكولاس فيندينغ ريفن بأنّ صالات عديدة في الدنمارك "يُرثى لها"، وبأن صالات ستختفي و"هذه حقيقة التطوّر"، فالأمور تختفي "كي تُمنَح حياةٌ لمشاريع جديدة". لن تبقى الصالة السينمائية مجرّد مكانٍ للمُشاهدة. يُطلَب منها إنتاج ثقافة تعتمد على المُشاهدة، لكنها تذهب إلى ما هو أبعد منها. أيكون هذا في إخراج المُشاهِد من عزلة التكنولوجيا الحديثة والمتطوّرة؟ أم أنه دعوة إلى استعادة المعنى الأساسيّ للصالة السينمائية، كمكان لمُشاهدة جماعية تمنح كل فرد خصوصية ذاتية في المُشاركة والمتابعة والإحساس والتواصل؟ في زمنٍ كهذا الذي يعيشه العالم، في ظلّ وفرة وسائل التواصل والتلقّي، ألن يكون صائبًا ما يقول به ريفن، بخصوص ضرورة ابتكار قيم جديدة للصالة السينمائية؟ والقيم هذه، ألن يكون بعضها على الأقلّ تفعيلاً لكسر الفواصل القائمة بين المُشاهد والتقنيات الحديثة تلك، التي "تُصغِّر" ما يُشاهده إلى حدّ لا يُحتَمَل غالبًا؟ إلى حدّ يجعل الفيلم السينمائيّ مجرّد متتاليات بصرية يصعب التواصل معها، انفعاليًا ومعرفيًا ومشهديًا وأخلاقيًا وجماليًا؟ أم أن المطلوب يتفوّق على المتوقّع؟
وماذا عن أفلام الخيال العلمي والأبطال الخارقين، ذات التكنولوجيا المتطوّرة هي أيضًا: أيُمكن مُشاهدتها خارج صالات مجهّزة لمُشاهدة هذا النوع السينمائي، الذي يزداد شعبية وحضورًا، رغم انفضاض جماهيري عن نتاجات عديدة منه؟ أيُعقل أن تُثير أفلام الرعب توتّرًا وارتباكًا وقلقًا وتشويقًا في نفوس مُشاهديها، إنْ يُشاهدونها على أجهزة "أيباد" مثلاً، كذاك التوتر والارتباك والقلق والتشويق التي تُثيرها المُشاهدة داخل الصالات السينمائية المُعتمة؟
النقاش حيوي، رغم أن هناك إمكانيةً لقولٍ مفاده أنّ كلامًا كهذا تقليديّ وقديم وغير نافع، وأنّ الزمن بتطوّراته التكنولوجية تجاوزه. ربما. لكنه، مع هذا، يبقى نقاشًا حيويًا ومفتوحًا على كلّ قراءة ممكنة. فهل تُصادر الأجهزة الحديثة ـ التي يستخدمها ملايين الأفراد في العالم يوميًا، بل على مدى اليوم بكامله غالبًا ـ المكانة الأصيلة للصالة السينمائية؟ رغم تطوّراتها المتلاحقة، ستبقى الأجهزة تلك عائقًا أمام مُشاهدةٍ يُفترض بها ألا تكون مجرّد متابعة لأحداث وحكايات وأحاسيس مبثوثة في سياقات درامية؛ فالمُشاهدة المُقدَّمة من الأجهزة تلك لن تُتيح للمُشاهِد (وهو معها يُصبح مجرّد متلقٍّ لا أكثر) متعة المُشاركة في متخيّل، وفي كشف وقائع، وفي تعرية أحوال، وفي معاينة أداء، وفي ملاحظة اشتغالات فنية وتقنية مختلفة في صنع الأفلام.
هذه ملاحظات لن تحسِم نقاشًا مفتوحًا على معارف ووقائع وتفاصيل. فالمشهد مرتبك، إذ تُستَخدَم التقنيات تلك في الحياة اليومية لكثيرين، وبعضهم غير متردِّد عن مشاهدة الأفلام عبرها؛ في مقابل استمرارية المُشاهدة السينمائية في صالات سينمائية، يُعاني بعضها مأزق "ثقافة المُشاهدة". هذا معطوفٌ على نمطٍ تُروّجه المنصّة الأميركية "نتفليكس" بخصوص المُشاهدة أيضًا. فهي، إذ تُنتج أفلامًا سينمائية، متمسّكةٌ بعدم عرضها في صالات سينمائية، إذْ لديها 137 مليون مشترك (بعضهم يدفع ثمن الاشتراك، وبعضهم الآخر لا يزال في مرحلة التجريب المجاني)، بحسب إحصاء أخير لها صادر في أكتوبر/تشرين الأول 2018. هذا وحده كافٍ ليقول سينمائيون عديدون إنّ أكبر عدد من المُشاهدين، يُمكن لأفلامهم أن تحصل عليه، لن يتعدّى 10 بالمائة من هذا الرقم، في أفضل الأحوال.
النقاش حيوي ومستمرّ، طالما أن التطوّرات التكنولوجية حيوية ومستمرّة.