ليس مؤكداً أن هوى العدد الأكبر من الكتّاب العرب بالنظريات، يفضي بالضرورة إلى القول أنهم لا يحبّون أشجار الحياة. غير أن الوقائع تشير إلى أن العقود الأربعة الأخيرة شهدت ضموراً لافتاً في الأعمال التي تحاول النظر في منتجات الواقع. فلا وجود تقريباً إلا لبضعة أعمال نقدية، تتصف بمتابعة النتاج الإبداعي العربي، لا في الرواية، ولا في المسرح، ولا في القصة، ولا في الشعر.
ولا يعرف المجتمع العربي دراسات جادة كثيرة تعنى بتحليل بناه الطبقية، أو العائلية والأسرية مثلاً. وآخر كتاب كان بحوزة الشباب العربي عن الطبقات الاجتماعية في العالم العربي هو: "التركيب الطبقي للبلدان النامية" لعدد من المؤلفين، أو العلماء، السوفييت الذي صدر في السبعينيات من القرن العشرين.
وقد يكون السبب، أو الأسباب، كامن في طبيعة الأنظمة السياسية التي تناوبت على السلطة، وكان من أهم سماتها محاولة توحيد المجتمع، والزعم بأن الصراع الطبقي، أو القومي، أو الطائفي، لا وجود له.
وهناك زعم آخر مهدد يقول إنك إذا أردت أن تنتقد، فيجب أن يكون نقدك بنّاءً. وسادت في الصحافة العربية، المقولة المنذرة التي تتهم كل نقد لا يعجب أصحاب النفوذ، بأنه هدام، واشترك في هذا "الاكتشاف الفكري" مسؤولون حزبيون، ومدراء معامل فاشلة، وكتاب "روائيون"، ورؤساء تحرير الصحف، ورؤساء اتحادات الكتاب، والطلبة. ومن الصعب دائماً أن يعرف المرء المعايير المقررة من قبل السلطة للنقد. إذ أنها تملك المقياس وحدها، وتحاسب المواطنين بناء على هذا المقياس الذي يتسم في الغالب بأنه متغيّر وقابل للمط والشد على السرير البروكوستي بلا أي حساب.
غياب التطبيق يعني غياب الممارسة. ولهذا فقد أمضينا عشرات السنين ونحن في الحالة النظرية، وكان الماركسيون، مثلاً، يواصلون تكرار العبارة الشهيرة التي اقتبسها لينين عن غوته: النظرية رمادية وشجرة الحياة خضراء. دون أن تجد لديهم في التاريخ المعاصر معرفة عميقة بالحياة الاجتماعية.
ويبدو لي أن الابتعاد عن النقد التطبيقي، يعكس رغبة في التملّص من المسؤوليات المحتملة، والعواقب المكروهة. وقد سبق أن كتبت أن معظم النقاد السوريين الذين اشتغلوا في النقد الأدبي، سرعان ما تخلوا عن المهمة، واتجهوا شطر النظرية، سواء كنا نتحدث عن النظرية الأدبية والنقدية، أم كنا نتحدث عن النظرية الفكرية والسياسية.
وليس لدي ما يثبت أن هذا التوجه، أو هذا التخلّي شبه الكامل عن النقد التطبيقي، يشير إلى فقر الحياة السورية مثلاً من النصوص، فمثل هذا الكلام تنقضه الوقائع، والمرجح عندي أن الناقد صار يرى أن النقد التطبيقي يعرّضه للمساءلة. وقد ادعى مدير معروف لإحدى المؤسسات الثقافية، ذات يوم، على أحد الصحافيين، وطالب بتغريمه مبلغاً خرافياً من المال، بسبب مقال نقدي طاول المؤسسة التي يديرها. بينما أخذ ممثل تلفزيوني يشتم الصحافيين الذين انتقدوا أحد أعماله.
وهنا تبدو النظرية مكاناً آمناً وظليلاً. ويمكن للناقد هناك أن يبدل اسمه، فيصير مفكراً. وينزع عن ثيابه أدران الواقع، ومشاكل الحاضر، كي يهنأ في الراحة الأبدية لقضايا النظرية، وأسئلتها.