كنا نعلم في بيوتاتنا، في طفولتنا، أن القدس لنا، والأرض لنا. كانت جدران البيت مزينة بصور المسجد الأقصى، تلفازنا العتيق ما زالت شاشته محاصرة ببقايا ملصقات تقول "ليست القدس مدينة.. إنما عقيدة". كانت الموسيقى محرمة على آذاننا، وكذلك صوت المرأة، لكن أحداً لم يمنعنا من، أو يحرم علينا، صوت فيروز حين غنت "زهرة المدائن". كنا حين نلعب الكرة يتسمى كل فريق باسم ما، فلا تبتعد الأسماء عن "فرسان الأقصى" أو "أبطال القدس" أو "أشبال فلسطين". كنا نؤمن حقاً بأن القدس لنا.
كنا حين نسألهم: لماذا نحن، ونحن أطفال، الذين يجب عليهم أن يحرروا القدس، ويعيدوا الأرض؟ ينشدون: فمن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقين؟ ومن للغاية الكبرى إذا ضمرت أمانينا؟ لكنهم لم يمتلكوا نشيداً أو جواباً عن سؤال: من لنا قبل أن نكون نحن لهذه الأمة؟
في خاطري صورة زينب، أمام بيت إمام القدس، أحمد ياسين، ترفع شارة النصر باسمة، تملكها النشوة أنها كانت هناك، في فلسطين، لا ترى القدس إلا قاب قوسين أو أدنى، تحدث نفسها، صبراً صبراً، غداً لنا لقاء، وحتى يحين الغد، هذه غرسة أغرسها، فيكون لي في الأرض مُلك، سلاماً فلسطين.
في خاطري صورة زينب، تنظر إلى المشنقة التي صنعتها لعنقها، تنساب دموعها، يأسرها الخوف من الموت، كما يأسرها الفضول، لا تذكر فلسطين، ولا غرستها، ملكها الذي في الأرض. تسائل نفسها، من لي؟ فيا شتان ما بين خاطر وخاطر.
لا وطن بلا مواطنين، ولا نبي بلا مؤمنين، ولا قدس بلا زينب، فمن أراد أن يكون للقدس، فليكن لزينب، فلا تقتلوا القدس كل يوم، بقتلكم ألف زينب، لا تكونوا عليها، إن لم تكونوا لها، لا تقتلوا غزة.
نحزن لفراقك يا زينب، نأسف على القدس بعدك، لكن ما زال بنا أمل، ففي هذه الأثناء رجل من رجالات فلسطين أو امرأة، ينبش الأرض بأظافره، يبتغي نفقاً، يرتقيه إلى الأقصى، فيخر النفق عليه، فقد منعته بلدنا مصر الإسمنت ليدعم به النفق، فيخلفه رجل آخر، يقول رحم الله أخي، قد سبقني إلى العلياء، فخِرّ أيها النفق مرة أخرى، فالحق به، فيلحق به.
لم يكن هذان الأخوان يشاهدان التلفاز، فيأبهان للقب الإرهابي الذي سيلحق بهما، من أبواق إعلام العار المصري، أو يهتمون بحسابات السياسة، أو تصريحات الزعماء، طالما أن أحداً منهم لن يجرؤ على أن يقول له غادر نفقك، واغسل يديك. ما زال بنا أمل يا زينب، إذ ما زالت شجرة الـ "كلمنتينا مخال" التي غرستِها تُسقى فتكبر، لتخلد اسم الشهيد خالد عصفور، واسمك معه.
إن التحرير ليس وهماً، وليس غنيمة باردة، ولسنا الذين ندفع ضريبته، وإنما الأخوان، فلا تغرنكم الأهوال عن حقيقته، فآمنوا بالنفق، وشجرة زينب، واعلموا أن لا أحد لكم، فكونوا لأنفسكم، واعلموا أن لا أحد للقدس غيركم، فكونوا لها.
*مصر