30 ابريل 2017
شجون من بين قضبان الجنون
مها محمد
مها محمد
قد يشعر الداخل إلى عنابر المرضى في مستشفى الأمراض العقلية، أنه داخل إلى حقل ألغام أو قفص حيوانات مفترسة. هكذا عبّرت إحدى الزميلات التي كانت ترتعب لمجرد فكرة الدخول إلى هناك، بعد أن هاجمها أحد المرضى العقليين.
هذا الرأي كنت أرفضه لشدة شغفي وتعلقي بذلك العالم الخارج على المألوف، فقد كنت أحبه، وأستشعر طهره، وأفهم لغته، وأحفظ مفرداته.
"نُون" من المرضى المقيمين بشكل دائم في عنبر النساء بمستشفى الأمراض العقلية منذ الأيام الأولى لعملي هناك، أصبحت لصيقة بي، وأصبحت لصيقة بها. كلماتها، حركاتها، كل سلوكياتها غير المألوفة، وكأنها فيلم وثائقي يتحدث عن الجنون بفصاحة.
لذلك أصبحت محور حديثي كلما عدت إلى المنزل، لا أكاد أتركها في المستشفى حتى ترافقني إلى هناك...
لم تكن كالأخريات تعاني من الفصام العقلي، بل من اضطراب المزاج ثنائي القطبين، بمعنى أنها تصاب بنوبات هوس جنونية لفظاً وفعلاً.
كانت تغني وترقص حتى تجعلنا نستسلم لجنونها المرح أحياناً، ونشاركها في ذلك و كأنها تثير زوابع البهجة في النفوس الراكدة. و كانت تصل من الشدة أحيانًا ما يضطرنا لتقييدها في السرير، حتى لا تسبب فوضى عارمة في العنبر المغلق.... وحيناً تتسمر على سريرها بكآبة تشبه الموت .... بلا حراك، أو طعام، و كأنها تنتظر الموت الرحيم فعلاً.
ماصار يدهشني بعد ذلك أنها تفهم كل حركاتي وسكناتي، و أحيانًا ما كنت أخفيه في داخلي. بل كانت تعلق على أمر ما يجول في ذهني بكلمات مقتضبة ثم تمضي و تتركني غارقة في اندهاشي، كذلك كانت تفعل مع كل من كان قريباً منها.
بعد اكتشاف إصابتها بمرض خطير في الكبد، زادت شفقتي عليها، وصرت أتوقع أنها ستغادرنا قريباً.. كم من مرة بعدها نظرت في عيني وقالت لي: "لا تقلقي.. حين أموت سآخذكم جميعاً معي إلى الجنة".
سنوات عشت معها خلف الباب المغلق لعنبر النساء المضطربات عقلياً، كانت كفيلة أن تجعلني أتعلق بوجودها وأشفق عليها، حتى أنني كنت أتقبل أحضانها وقبلاتها الغارقة بالدم الملوث من فمها الذي كان ينزف كلما اشتد عليها المرض .... كنت أخشى أن ترحل من دون ذلك بعد أن هجرها الأبناء، ورفضوا حتى مجرد زيارتها قبل أن تموت، وتنكر لها والدها حتى.
وفي هدنة مع جنونها ومرضها الذي كان يرهقها، كانت تستيقظ في منتصف الليل تفترش الأرض وترفع يدها بالدعاء لنفسها، ولنا جميعًا. حتى كان آخر يومٍ لها في الدنيا بعد أن أدخلها المرض في غيبوبة لم تفق منها ... كان جسدها الضئيل هذه المرة عاقلاً... قرأت في أذنها سورة ياسين، وخرجت عنها قبل أن تخرج روحها بساعات قليلة.
إنها واحدة من عشرات القصص لأناس فقدوا عقولهم، وفقدوا بذلك حياتهم، كانوا أطفالاً يوماً ما، وكان لهم منزل وربما أصبح لهم زوجٌ وأبناء، وعمل ومنصب. كل ذلك انتهى وبقوا مجرد أجساد ترقب الحياة والعالم من خلف الشبابيك المغلقة، والأبواب المقفلة..والعقول التي غادرت سكناها.