شرعية أميركية للتدخل الإيراني في العراق
بدأت، منذ فجر الثاني من مارس/ آذار الجاري، عمليات تحرير تكريت والأقضية والنواحي التابعة لها، ثم شهدت المنطقة قصفاً مدفعياً وجوياً مكثفاً لفسح المجال أمام قطعات من الجيش العراقي مع مليشيات "الحشد الشعبي"، لاقتحامها، وصولاً إلى عاصمة محافظة صلاح الدين، تكريت، ذات الرمزية العالية لدى العراقيين، كونها تمثل مسقط رأس الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ومثواه، كما تمثل المدينة معبر الولوج الرئيس وعنصر الدعم النفسي والمعنوي نحو تحرير محافظة نينوى، وعاصمتها الموصل، من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية.
ولا يختلف اثنان في أهمية موضوع تحرير الأراضي العراقية من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، خصوصاً بعد الفظاعات التي مارسها في محافظتي نينوى والأنبار. لكن، ونحن نتحدث عن أبعاد استراتيجية لهذه العملية العسكرية التي تجري في تكريت وتخومها، لا بد من التوقف كثيراً عند تداعيات الموقف الحالي والختامي، ربما على مجمل الوضع العراقي، أولاً، ثم، والأهم والأخطر، على الأوضاع العربية والإقليمية في الشرق الأوسط. يشارك في عمليات تحرير تكريت أكثر من 40 ألف مقاتل، منهم نحو 25 ألف عراقي يمثلون قطعات للجيش و"الحشد الشعبي"، والباقون من الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله اللبناني. وأكدت مصادر من داخل ميادين القتال أن سلاح المدفعية يديره كله ضباط رصد وعناصر سيطرة ورمي إيرانية، واللافت الأهم أن العملية بقيادة إيرانية مع وجود مستشارين عراقيين، بعضهم من ضباط في الجيش، وآخرون من قيادات تنظيمات "الحشد الشعبي"، مثل "عصائب أهل الحق"، و"حزب الله" العراقي واللبناني، و"فيلق بدر"، وغيرها. وقد شوهدت، في المعبر الحدودي العراقي (المنذرية) في محافظة ديالى، أرتال عديدة من الدبابات والمدرعات والآليات الإيرانية، وهي تدخل العراق متوجهة إلى ساحات المعارك، تعزيزاً لموقف القطعات المهاجمة، ومنعاً لأي إعادة تنظيم وانتشار وهجوم مقابل، لمقاتلي تنظيم الدولة، إضافة إلى مشاركة طائرات درونز الإيرانية، بدون طيار وطائرات عمودية في عمليات القصف والمراقبة.
باتت هذه المسائل معروفة، ولم تعد حكومة حيدر العبادي في بغداد، ولا الحكومة الإيرانية في طهران، قادرة على أن تخفيها، بل بات مسلماً به أن هناك ساحة مفتوحة لإيران، اسمها العراق، تتمدد فيها حيث تشاء، وقد منحها تنظيم الدولة الإسلامية بما فعله من فظاعات تمس الإنسان والرموز الأثرية العالمية والوطنية، منحها حالة من اللامبالاة المحلية والدولية، فتم استثمارها بأفضل ما يكون، خصوصاً في غياب شبه تام لإرادة حكومية عراقية، وقدرة شعبية وطنية على فعل ما يمكن فعله لتغيير الواقع، أو للحفاظ على ما تبقى من واقع العراق المعروف حتى هذه اللحظة.
المهم في قراءات عملية تحرير تكريت، بمشهدها الإيراني البارز الحالي، الموقف الأميركي، فالمتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، ستيفن وارين، قال إن بلاده على علم مسبق بالعملية، وعلى الرغم من إشارته إلى عدم تقديم طائرات التحالف الدولي أي إسناد حربي للعملية، إلا أن تسريبات كثيرة تقول إن الطائرات الأميركية والفرنسية شاركت بالعمليات، وهي في حالة استطلاع جوي دائم فوق مناطق العمليات. وأعلن رئيس أركان الجيوش الأميركية، الجنرال مارتن ديمبسي، أن دور إيران والمليشيات الشيعية المؤتمرة بإمرها يمكن أن يكون "إيجابياً"، إذا لم يؤد إلى توترات طائفية مع السنة (!). وأكد ديمبسي، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، أن التدخل الإيراني في معركة تكريت هو "الأكثر وضوحاً" في العراق، ثم عاد وأكد أن طائرات التحالف هي التي منحت التفوق للقوات المهاجمة في تكريت، لكن هذا الموضوع، وفي ظل زيادة القطعات الإيرانية المشتركة بالعمليات، بشكل يومي وعلى مدار الساعة، لا يمكن أن يبقى في ظل تصريحات خجولة لقادة أميركيين، وبات المحيط الإقليمي والوطني العراقي يتحدث عن "احتلال" إيراني للعراق، عبر قوات مسلحة نظامية، ولم يعد الموضوع هو خشية فقط من "توترات طائفية"؛ وهو ما تحدث به قادة خليجيون بصراحة مع وزير خارجية الولايات المتحدة، جون كيري، خلال زيارته الأخيرة للمنطقة.
تصريح، أو نفي، الجنرال لويد أوستن، قائد القوات الأميركية في العراق، وجود نية للولايات المتحدة "للتواصل أو التنسيق" مع الإيرانيين في العراق وضع عقدة هذه العلاقات، وأقصد الأميركية - الإيرانية، في عقدة المنشار، وأثار تساؤلات عديدة، والموجودة أصلاً، عن ماهية هذه العلاقة فعلاً في ظل مواقف هزيلة للإدارة الأميركية الحالية تجاه ما يجري في العراق خصوصاً، وفي المنطقة عموماً، من غض نظر واضح تجاه التمدد والهيمنة والتفوق الإيراني على جميع أقطار المنطقة العربية مجتمعة، وبشكل تصاعدي؟
خصصت صحيفة "الغارديان" البريطانية مقالاً افتتاحياً عنونته بـ"تحالف إيراني أميركي في العراق"، ولفتت الصحيفة في هذا المقال إلى أن المسؤولين الأميركيين حريصون على عدم الإشارة إلى أي تحول استراتيجي في العلاقات مع طهران، لكنهم يواجهون مشكلات في طمأنة حلفائهم من الدول العربية، بشأن موقف الولايات المتحدة من إيران.
ويرى محللون أميركيون أن الإدارة الأميركية ترتكب أخطاء استراتيجية بشأن إيران وأسلوب تمددها ونفوذها في العراق وسورية ولبنان واليمن، ويتوقعون أن هذه الأخطاء ستفضي إلى تمدد إيراني في دول عربية أخرى، ومع تدفق القوات الإيرانية في العراق وسورية ومشاركتها في العمليات العسكرية، تسقط قيمة كل التصريحات والتأكيدات الأميركية السابقة، سواء على مستوى البيت الأبيض أو البنتاغون، والتي كانت تصر، وتؤكد، على عدم وجود قوات إيرانية خاصة داخل العراق.
والآن، وبعد أن فضحت إيران رسمياً كذب الادعاء الأميركي، بإعلانها رسمياً عن مشاركة قواتها النظامية في إدارة معركة تكريت، ومشاركة مقاتليها في هذه المعركة، كان الموقف الأميركي أكثر غرابة من الأول، عندما منحت هذا الإعلان شرعية بحجة أنها تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها تناست أن "فيلق القدس" مصنف لديها "منظمة إرهابية"، وهي، الآن، تخوض معركة تكريت، ومن قبلها ديالى وجرف الصخر، بقيادة زعيمها قاسمي سليماني.
منح الإدارة الإميركية الشرعية لإنسياح إيران العسكري داخل العراق يعني تأكيد توكيل أميركي لإيران للقيام بدور تقتضيه مهام توزيع مراكز القوى المحددة للشرق الأوسط الجديد، وبما يحمي مصالح الولايات المتحدة في هذه المنطقة، كما يعني، في ما يعني، أن على دول الخليج العربي، بعد حين، أن تتعامل استراتيجياً مع إيران شرطياً جديداً، ليس للخليج العربي فقط، بل للمشرق العربي كله.