وحين لم يفلح النظام في إقناع حتى مؤيديه بهذه الفكرة، بدأ يعمل بشكل ممنهج على صناعة إرهاب يدسه في جسم الثورة بهدف القضاء عليها، فأرسلت إيران مستشارين لمساعدة النظام على تطبيق خطة تحويل الثورة إلى إرهاب، قام بعدها النظام بإطلاق سراح معتقلي سجن صيدنايا المتهمين بالجهادية السلفية، والذين كان قسم كبير منهم متهم بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة". وفور خروج تلك الجماعات من السجن، انتقل القسم الأكبر منها إلى شمال سورية حيث قاموا بتأسيس "جبهة النصرة" التي تتبع لتنظيم "القاعدة"، و"حركة أحرار الشام الإسلامية" التي تتبع المنهج السلفي من دون الارتباط بـ"القاعدة"، كتنظيمين جهاديين، صرحا في بداية الأمر بأن هدفهما هو نصرة الشعب السوري من المظلمة التي وقعت عليه من النظام.
وبدا واضحاً منذ بداية تشكيل هذين الفصيلين أن هناك إرادة دولية بتحويلهما إلى قوة ضاربة في مناطق المعارضة، إذ تم تحويل معظم الدعم، المقدم باسم الثورة السورية، إلى هذين الفصيلين، بدعوى أنهما يمتلكان "منظومة أخلاقية"، في الوقت الذي تم فيه حجب الدعم عن الجيش السوري الحر. كما تم تمكين هذين التنظيمين من قراءة الاحتياجات الخدمية لسكان المناطق المعارضة من أجل إكسابهما حاضنة شعبية. كما تم بث العديد من الشائعات، التي تشبه تلك التي تطلقها الفروع الأمنية، والتي كانت كلها تمجد المنهج السلفي "الجميل" وكيف أن النظام كان يحجب هذا المنهج عن السوريين. وبدأ تنظيما "جبهة النصرة" و"حركة أحرار الشام" بالنمو سريعاً، بقوة المال والسلاح الذي امتلكوه، إلى أن حصل الانشقاق في صفوف "جبهة النصرة" إثر إعلان أبو بكر البغدادي الانشقاق عن "القاعدة" وإعلان ما سمي بـ"دولة الخلافة في العراق والشام"، فبقي قسم، بقيادة أبو محمد الجولاني، على بيعة زعيم "القاعدة"، أيمن الظواهري، باسم تنظيم "جبهة النصرة"، فيما بايع قسم منهم البغدادي، وأسسوا ما عرف بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، التي عرفت في ما بعد اختصاراً بـ"داعش". في هذا الوقت، بدأت "حركة أحرار الشام" بالتمايز رويداً رويداً عن "جبهة النصرة"، والتخلي عن الجهادية السلفية، وتحويل نفسها إلى حركة وطنية تتبنى مطالب الثورة السورية.
كما شهدت مرحلة تشكيل "داعش"، في إبريل/ نيسان 2013، انكشافاً كبيراً لتوجهات هذا التنظيم، وتنظيم "جبهة النصرة"، المعادية للثورة السورية، والتي بدأت بالظهور بشكل علني، فقام الجيش السوري الحر بطرد كل عناصر "داعش" من شمال سورية، إذ توجهوا إلى مدينة الرقة، فيما بقيت "جبهة النصرة" تعمل ضمن مناطق المعارضة كشريك لفصائل المعارضة في محاربة النظام والعداء لتنظيم "داعش". ومع توقيع "حركة أحرار الشام" على ميثاق الشرف الثوري مع فصائل الجيش السوري الحر، بدأ تنظيم "جبهة النصرة" يظهر على حقيقته ويُظهر عداءه للثورة، من خلال ملاحقة الناشطين وقتل الكثيرين منهم، كما بدأ باتباع استراتيجية تقوم على إنشاء مناطق سيطرة خاصة به. ومع بداية المعارك بين "داعش" وفصائل المعارضة أواخر العام 2014، بدأت قوات النظام تؤمن الحماية لعناصر التنظيم وتظهر أولويتها بمحاربة فصائل المعارضة على حساب تقوية "داعش"، إذ لعبت قوات النظام دوراً كبيراً في تأمين غطاء جوي للتنظيم من خلال قصفها لمواقع المعارضة أو الهجوم عليها من محاور أخرى، من أجل تسهيل مهمة "داعش". كما لعب التنظيم الدور ذاته خلال المعارك التي كانت تقوم بها فصائل المعارضة ضد قوات النظام.
واستفادت إيران من تنامي قوة "داعش" في إعادة تأهيل النظام أمام الرأي العام الدولي، وتحويله من نظام قاتل يرتكب جرائم بحق الإنسانية إلى محارب للإرهاب. كما تم استخدام "داعش" في تسويق النظام كحامٍ للأقليات من خلال سحب التنظيم إلى أطراف المناطق التي تسكنها أقليات. حيث تم جلب التنظيم إلى مناطق شرق حماة، التي ينتمي معظم سكانها إلى الطائفة الإسماعيلية، كما تم جلبهم إلى حدود مناطق محافظة السويداء التي ينتمي سكانها للطائفة الدرزية، وتخويف السكان من خطرهم وجعلهم أمام خيار واحد كبديل عن النظام هو "داعش" الذي يعدهم بالموت، ليتحول التنظيم أيضاً إلى فزاعة يستخدمها النظام وإيران في وجه الأقليات.
ورغم كل العداء الظاهري الذي كان يسوقه النظام ضد "داعش"، إلا أن التنظيم كان يرتبط بعلاقات اقتصادية قوية مع النظام، سواء لناحية تزويد التنظيم بالسلع الأساسية التي يحتاجها مقابل استيراد النظام للنفط الذي كان يسيطر التنظيم عليه، أو لناحية تشغيل النظام للمنشآت الحيوية التي وقعت تحت سيطرة التنظيم، كسد الفرات وغيره. وبدأ يظهر، في بداية 2015، بشكل أكبر التنسيق بين "داعش" والنظام، برعاية إيرانية، إذ تم استخدام التنظيم كأداة لتقوية موقف النظام دولياً، فتم السماح للتنظيم في مايو/ أيار 2015 بالدخول إلى مدينة تدمر، ضمن مسرحية كانت واضحة للجميع، إذ تم السماح لعناصر التنظيم بقطع أكثر من 200 كيلومتر ضمن الصحراء وصولاً إلى تدمر من دون أن تقوم أي جهة باستهدافه. وفور وصوله إلى مشارف المدينة، أعطيت الأوامر لعناصر النظام بالانسحاب الكيفي من المدينة، ليتاجر بها النظام كمدينة أثرية مسجلة ضمن التراث العالمي يسيطر عليها الإرهاب.
وبعد التدخل الروسي في سورية أواخر سبتمبر/ أيلول 2015، بدأت الغارات الجوية الروسية تستهدف مواقع المعارضة المعتدلة من دون أن تطلق أي طلقة باتجاه التنظيم، ليبدأ مسلسل استهداف المعارضة تحت بند مكافحة الإرهاب، في حين ترك عناصر من تنظيم "داعش" في جنوب دمشق كذريعة لمنع سكان المنطقة من العودة إليها، في الوقت الذي يمكن للنظام أن يستعيد كل المنطقة خلال ساعات. وانتقلت إيران و"حزب الله" من التنسيق الخفي مع التنظيم، الذي يمكن الاستدلال عليه بنتائجه، إلى التنسيق المباشر والعلني، والذي توّجه "حزب الله" بعقد صفقة مع "داعش"، تم خلالها نقل 250 عنصراً من جرود عرسال الحدودية مع سورية إلى مناطق سيطرة التنظيم في دير الزور في ديسمبر/ كانون الأول 2017 مقابل جثث ثمانية قتلى من "حزب الله" والحرس الثوري الإيراني كانت لدى التنظيم. ثم ليتابع النظام بعدها تنسيقه المكشوف مع "داعش" الذي استخدمه كرأس حربة في معاركه ضد المعارضة في ريف حماة الشمالي، إذ كان التنظيم يستولي على المناطق ثم يسلمها للنظام. وبعد انتهاء المعارك، فتح النظام ممرات آمنة لعناصر التنظيم باتجاه مناطق المعارضة في إدلب، التي تمكنت من محاصرتهم وأسرهم.
ولم تكن علاقة "جبهة النصرة" بالنظام وإيران وروسيا، تقل أهمية عن علاقة "داعش" معهم، إذ تكمن خطورة "جبهة النصرة" بكونها تسيطر على أراضٍ ضمن مناطق المعارضة. وقد قدمت "النصرة" خدمات كبيرة للنظام، كما حاولت وسم كل المعارضة المسلحة بسمة الإرهاب، من خلال محاولاتها المتكررة جر فصائلها للتوحد معها في الأوقات التي يتم تسليط الضوء عليها من قبل المجتمع الدولي كتنظيم إرهابي. كما ساعدت "النصرة" روسيا على إيجاد ذريعة لاقتحام مناطق المعارضة في حلب. ففي الوقت الذي أعلنت فيه روسيا أنها ستدعم قوات النظام في عملية اقتحام حلب القديمة بحجة وجود "النصرة" فيها، بدأ عناصر "الجبهة"، الذين لا يتجاوز عددهم المئات، في حلب بإقامة الحواجز والظهور أمام الكاميرات كي يثبتوا ذريعة الروس للتدخل. كما عقد "حزب الله" صفقة مع "جبهة النصرة" في سبتمبر/ أيلول 2017 نقل من خلالها عناصر من "النصرة" الموجودين في لبنان إلى محافظة إدلب. وتعود الخدمات التي قدمتها "جبهة النصرة" للنظام إلى بدايات تأسيسها، إذ ساعدته على وسم المعارضة بالإرهاب، في أول اجتماع دولي لما يعرف بأصدقاء سورية، والذي استبقته "جبهة النصرة" بساعات، لتعلن بيعتها لتنظيم "القاعدة"، الأمر الذي أربك الاجتماع ومنع دعم المعارضة.