تمثل تونس بالنسبة للجزائريين الذين يعيشون في قلب حالة ثورية لا تزال في مرحلة مخاض، تجربة انتقالية قابلة لفحص مدى سلامة الديمقراطيين من العيوب التي تنتهك الديمقراطية نفسها، ومدى قابلية الإسلاميين للتمرن على التعايش السياسي، ولذلك يبدو الاهتمام بتفاعل الأحداث في البلدين أمراً تفرضه الجغرافيا السياسية. يظهر الداعية الديمقراطي والحداثي (التونسي) في فيديو داخل ملهى ليلى يرمي كومة من الأوراق المالية على راقصة. ليس في المشهد ما يستدعي التعليق، فتلك حياته الشخصية الخاصة، حتى وإن كان يُفترض في مسؤول سياسي أن يكون أكثر حذراً في سلوكه، وبقدر أكبر في ظرف اجتماعي صعب يمر به قطاع واسع من التونسيين. ليست القصة هنا، لكن الحكاية كلها في ما قاله الداعية الحداثي رئيس كتلة نداء تونس وجهازه المركزي سفيان طوبال في تبريره للفيديو الذي ظهر فيه: "الحمد لله لست ممن عملوا على تجنيد الشباب للقتال أو دعوا لختان البنات". في تبرير قبيح كهذا يظهر المشروع السياسي الذي يحمله هذا النموذج المعطوب من الحداثيين والتقدميين، والذي له ما يقابله كثيراً في المشهد السياسي في الجزائر. ففي مقابل مشروع المتشددين، تجنيد الشباب لصالح الكيانات المتطرفة، يقدم هذا النموذج الحداثي مشروعه التنويري البديل لمريديه في الملاهي. وفي مقابل دعوات متشددين لختان البنات، يهين هو امرأة في ملهى بطريقة قبيحة. في المحصلة، عند نقطة إهدار الوعي تتقاطع وتلتقي شركات تغييب العقل، بمختلف "ماركاتها"، من بعض الإسلاميين الذين طوّعوا النص باتجاه المغالاة والتطرف، فحصروا مشروع الإنسان ضمن خطاب الموت، ومن بعض الحداثيين الذين ضاق تفكيرهم فقيدوا التقدمية والحداثة والديمقراطية في خطاب "حب الحياة".
يشترك كل من مشروع "التطرف الظلامي" و"التطرف التقدمي" في الاعتماد على مفاهيم مخدّرة للديمقراطية، وفي تدمير الفرد والإضرار بالنسيج المجتمعي والاقتصادي. أكثر من ذلك، يلتقي التطرف "الإسلاموي" بالتطرف الحداثي في منظورهما إلى المرأة كجسد، يرى فيها الأول سبية تطبخ، ولا يرى فيها الثاني (بمنظور قائد نداء تونس مثلاً) أكثر من راقصة ملهى.
يبحث الأول عن رأسمال بشري يمتنع عن التدبر والتفكير، يتسلح به في حربه العدمية باسم الدين والغيب، ويفتش الثاني عن رصيد من الشباب المغيب العقل والمعدوم الهوية لضخه في ظلام الملاهي حصراً، باسم التقدمية، ولذلك عندما خرج مغني الراب التونسي مروان الدويري من نمط حياته السابق، سلم نفسه مباشرة لمجموعات الغيبية في سورية مباشرة.
سدّدت الجزائر بكلفة غالية ثمناً لخطاب تغييب العقل باسم الدين في التسعينيات من القرن الماضي، ومن الأهمية بمكان الانتباه إلى أن المنحى ذاته قد يأخذ شكلاً وهوية سياسية أخرى، ويجد في عناوين تقدمية تبدو مغرية مداخل جديدة لإزهاق مزيد من الوقت. لذلك يبدو مهماً استحضار العقل والمساءلة والروح النقدية بشكل دائم، مهما كان المشروع السياسي والعنوان المحمول عليه واسم حامله وخطابه.