ويستند "الانفصاليون" أساساً على ما تسببت به الدنمارك من أضرار للتركيبة الاجتماعية لشعب الـ "إينويت" الصياد، الذين يعانون من مشاكل اجتماعية وثقافية واقتصادية عدة، ما يزيد من حماسة المطالبين بالانفصال عن الدنمارك، التي بنت علاقة تاريخية معهم منذ عهد الفايكنغ في 972 ميلادية.
وسكان جزيرة غرينلاند، التي تسمى "كالاليت نوات" باللغة المحلية وتعني جزيرة الإنسان، يلقون اهتمام الدنمارك بسبب دعواتهم للانفصال، مع تزايد الانتقادات لسياسات كوبنهاغن الاجتماعية التي أدت إلى هجرة جيل شاب من الـ"إينويت" بحثا عن الدراسة والعمل في البر الدنماركي. ولقي هؤلاء تمييزا في الدراسة وسوق العمل، بعد انتشار صورة نمطية عن سكان غرينلاند بأنهم "شعب سكير".
وتعرضت كوبنهاغن لانتقادات حقوقية أوروبية كثيرة، لأنها رفضت النظر بجدية إلى مطالب "حماية الأقلية الغرينلاندية"، أسوة بأقليات ألمانية وشعب جزر الفارو.
وترفع أحزاب وشخصيات اشتراكية ويسارية وقومية مشاركة في الانتخابات، الصوت عالياً بضرورة "الاستقلال" عن الدنمارك، بهدف التحرر من الهيمنة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الدنماركية، ومنها على سبيل المثال "الصيد الجائر" الذي تتبعه شركات صيد دنماركية يحرم الشعب الأصلي من حقوقه الاقتصادية ويكرس تبعيته للدنمارك ومساعداتها. ويبرز اليوم السياسي الغرينلاندي، فيتوس كوايكيتوسك، مؤسس حزب "أرض أطفالنا"، واحداً من دعاة الانفصال.
وحذر الليبراليون وبعض رجال الاقتصاد في الدنمارك خلال السنوات الأخيرة من مخاطر "الانفصال". وحاولت الأحزاب المتعاقبة في كوبنهاغن الدفاع عن سياسة "شيك المساعدات" المقدم للجزيرة واقتصادها، باعتبار أن "غرينلاند لن تستطيع الصمود والحياة بدون كوبنهاغن". ورغم تأكيد رئيس حكومة ائتلاف اليمين، لارس لوكا راسموسن، في أكثر من مناسبة على "حرية غرينلاند في تقرير مستقبلها"، إلا أنه يوجه تحذيراً مبطناً بأن "المساعدات المقدرة بـ4 مليارات كرونة (نحو 6.5 ملايين دولار أميركي) سنوياً ستتوقف فورا".
معاناة شعب غرينلاند
بعيدا عن تشابك مصالح النخب في المجتمعين الغرينلاندي والدنماركي، فإن كثيرين من الغرينلانديين يرفضون أن يبقى نظامهم التعليمي وبنية التركيبة الاجتماعية، المتعلقة بتعريف الأسرة والعلاقات والتوطين، تحت سلطة القرار الدنماركي. وتُحمّل شخصيات مجتمعية وثقافية في الجزيرة سياسات كوبنهاغن مسؤولية "تدهور وضع شعب غرينلاند على مدى عقود".
ويشير هؤلاء إلى انتشار جرائم يعيدها هؤلاء إلى "سياسة استعمارية جلبت الكحول وتشويش الهوية". وأيضا الهجرة وانحسار التعليم، إذ أن 38 في المائة ممن هم فوق 16 عاماً أكملوا مراحل تعليمهم ما بعد الابتدائي، وأغلبهم يحملون شهادة ثانوية فقط، إضافة إلى أن 6 من كل 10 أشخاص من هذا الشعب لا يجيدون سوى لغتهم الأم. ويضاف إلى ذلك أيضاً هيمنة الدنماركيين على مفاصل كثيرة منها الشرطة والبلديات والتدريس والاقتصاد في غرينلاند.
وتستمد أحزاب وحركات الانفصال عزمها من تنامي الرغبات الشعبية بالعودة إلى الحياة الأصلية المنسجمة وطبيعة وتاريخ جزيرتهم. ويذهب هؤلاء اليوم إلى المطالبة بإلغاء إلزامية اللغة الدنماركية كلغة ثانية. ويحاججون أن "العالم أوسع من الدنمارك، ولأجل مستقبل استقلالنا يجب نشر لغة أخرى ثانية بين الأجيال الجديدة". ويطالب هؤلاء بسياسات اجتماعية مختلفة عما هو منتهج اليوم في جزيرتهم المترامية، وإن كانت المناطق المأهولة بنحو 70 ألفا من السكان تتركز على شاطئيها الشرقي والغربي.
العودة نحو الجزيرة
وتزايدت خلال السنوات الأخيرة حالات العودة من الدنمارك نحو الجزيرة من الذين تركوها بقصد التعليم والعمل، ولدى هؤلاء أسباب كثيرة يسوقونها منها ثقافي وقومي، بعد سنوات عانوا خلالها من التمييز في الدنمارك.
وأظهر تقرير رسمي في 2015، صادر عن "مجلس المساواة"، بالتعاون مع مركز حقوق الإنسان، أن الغرينلاديين هم أيضا "ضحايا التمييز رغم أنهم مواطنون"، إذ أن نسبة 36 في المائة فقط منخرطون بسوق العمل بالدنمارك. وبالرغم من أن كثيرين يحملون أسماء دنماركية أيضا، وبعضهم متزوجون زيجات مختلطة، إلا أن عملية التمييز تستند وفقا للتقارير الحقوقية على "الشكل" و"الأحكام المسبقة".
ويذهب المهتمون بالبنية الاجتماعية لمجتمع "إينويت" إلى اتهام الدنمارك بتفكيك مجتمعهم، وإضعاف الترابط الأسري الذي كان عماد البقاء بالنسبة لهم.
توسعت الانتقادات لكوبنهاغن في السنوات الأخيرة بصفوف الجيل الجديد، في محاولاتها صهر شعبهم "الذي نسيت السلطات بأنه شعب مختلف بثقافة ولغة أخرى". ويطالب الجيل الشاب، وعلى رأسهم الباحثة في الجامعات الدنماركية، أفياجا ليبرث هاوبتمان، بالاعتراف بشعبها كأقلية قومية، معتبرة الأمر "مصدر فخر ونقطة التقاء تجعل منّا ومن الأجيال القادمة مواطنين بخلفية قومية تحافظ على ثقافتها بدل إبراز مسألة الاندماج، وكأنها تنافس بين من هو قادر وغير قادر".
أكثر القضايا التي يعاني منها شعب غرينلاند اليوم "التمييز والأحكام المسبقة بحقهم مثلما هو حال المهاجرين، سواء كانوا من الصومال أو العراق"، بحسب ما تضيف الباحثة هاوبتمان، وهي تستدل على التقارير الرسمية الحقوقية.
تبقى الإشارة إلى أن مسألة الانفصال لن تحسمها صناديق الاقتراع المنحصرة بانتخاب أعضاء البرلمان، لكن انتشار الحديث والتبشير بالانفصال والاستقلال أصبح جزءا من يوميات غرينلاند وكوبنهاغن في البحث المستقبلي للعلاقة بين الطرفين، خصوصا إذا ما قوّت الفترة المقبلة من الحركات والأحزاب المؤيدة لدعوة الاستقلال.
جزيرة غرينلاند
انتقلت الجزيرة الأكبر في العالم من السيطرة النرويجية إلى التاج الدنماركي في عام 1721، وتعرضت لحملات تبشير و"تحضير" على مدى قرون.
يشار إلى أن 8 في المائة من المعلمين في مدارس الجزيرة لا يتكلمون لغة أهلها، الغرينلاندية. ويتساءل النشطاء الاستقلاليون؛ هل يمكن أن يحدث العكس، كأن يكون 8 في المائة من أساتذة مدارس الدنمارك من مهاجرين لا يتحدثون لغة شعب البلد؟
أكثر من 50 في المائة من شعب الجزيرة يتحدثون لغتهم الأم فقط. و20 في المائة يتكلمون باللغتين الأم والدنماركية. و10 في المائة فقط يجيدون الدنماركية تماماً.
مقارنة بالدنمارك التي تبلغ فيها نسبة التعليم فوق الإلزامي 67 في المائة، ففي غرينلاند لا تتعدى النسبة 36 في المائة، وقبل 10 سنوات لم تكن أكثر من 30 في المائة.
وشهدت هذه الجزيرة تواجد قواعد عسكرية نووية أميركية خلال فترة الحرب الباردة، وهي جزيرة عاش شعبها فقرا وجوعا بعد انطلاق ما سمي "تحضير السكان".