13 يوليو 2016
شعوب متحضرة تحب سفك الدماء
بدر الشرشاوي (المغرب)
خلّدت فرنسا وألمانيا، قبل أسبوع، في مدينة فردان الفرنسية الذكرى المائة لمعركة فردان، إحدى أشهر معارك الحرب العالمية الأولى، بحيث ألقى كل من الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، خطابا بالمناسبة الأليمة.
اندلعت المعركة بين البلدين الجارين في 21 فبراير/ شباط 1916 وانتهت في 20 ديسمبر/كانون أول من العام نفسه، مستمرة حوالى 300 يوم، لقي خلالها ما يفوق ثلاثمائة ألف شخص حتفهم من الجانبين، قبل أن تنسحب القوات الألمانية من أرض المعركة، بعدما أظهر الفرنسيون مقاومة شديدة، لكن الألمان عادوا ودخلوا المدينة بسهولة سنة 1940.
عبر المسؤولان عن أسفهما الشديد لما حصل من قتل ودمار، ولم يفتهما التعبير عن سعادتهما بالصداقة والتعاون الفرنسي الألماني في الوقت الراهن.
قالت ميركل بالحرف الواحد: "نحن محظوظون بوحدتنا"، وهي تدرك جيداً ما تعنيه. وقال الرئيس الفرنسي، في معرض حديثه عن الجنود الذين لقوا حتفهم في المعركة: "هؤلاء كانوا بشرا في عالم فقد إنسانيته"، وكأن العالم الآن يعج بالأخلاق والقيم الإنسانية.
وأنا أشاهد النقل المباشر للحدث، خُيّل إلي في لحظةٍ أن الجالسين أمام هولاند وميركل هم ضحايا الحرب أنفسهم، وقد بعثوا من قبورهم للمساءلة. كان المشهد أشبه بيوم قيامة مصغر. الجنة والنار: جنة الحاضر ونار الماضي.
لم يكن المسؤولان سعيدين، ولا حزينين، بل كانا سياسيين محنكين، يعكسان قوة واستقلالية بلديهما. كانا حذرين جداً، كما هو الحال دائماً مع زعماء الدول القوية فعلا ، على الرغم من القرابة الجغرافية والاقتصادية والسياسية التي قد تجمعهما. وفي هذا السياق، يحضرني مشهد الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، وهو يداعب الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، ذات يوم مشؤوم.
فهمنا من كلمتي الرئيس والمستشارة أن العلاقات بين الدولتين "سمن على عسل"، بفعل الرعاية السامية للاتحاد الأوروبي الذي عرف كيف يجمع أفراد عائلته الكبيرة، تحت سقف واحد.
لا شك في أن الملايين من الناس في آسيا وإفريقيا كانوا يعيشون لحظات رعبٍ حقيقية، داخل منازلهم المهددة بالقصف من "الناتو"، أو داخل مراكبهم المهدّدة بالغرق في عرض المتوسط أو بسبب المجاعة، في اللحظة نفسها التي كان يحتفي فيها الشعبان الألماني والفرنسي بصداقتهما وتقدمهما. لا حاجة لنا هنا إلى التذكير بالأدوار المباشرة وغير المباشرة التي يلعبها حلف الناتو في قتل هؤلاء الأبرياء.
كيف يدعو هؤلاء إلى السلم والحرية وهم يقتلون ويشردون الآلاف من الناس العزّل سنويا. "الآخر" لا يكون معنياً بكلامهم إلا إذا تحدثوا عن الإرهاب والقتل والتشريد...إلخ. أليست أوروبا سوراً له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب بتعبير القران الكريم؟ ألم يكن الروائي الروسي، دوستويفسكي، على صواب، عندما قال إن أكثر الشعوب تحضُّراً أشدُّها حبّاً لسفك الدماء؟
مقابرهم أجمل من مدننا وأحيائنا، حتى لا أقول بيوتنا. لا بد أن من شاهدها من اللاجئين والجوعى والمهجرين تمنى أن يستبدل حياته بقبر هادئ هناك! مقابرهم لا تثير الرعب في الأطفال. مقابرهم تستحق عبارة "فلترقد روحك بسلام".
سيدي الرئيس، كنت في قمة الإنسانية، عندما قلت بأن هؤلاء الجنود عاشوا في عالمٍ تخلى عن إنسانيته، وكأن العالم الآن مدينة أفلاطون الفاضلة.
لا أخفيكم أن الشيخ إمام كان يتراءى لي بين لحظة وأخرى، وهو جالس القرفصاء مع جموع الشباب يدندن، ويغني: فاليري جيسكار ديستان بصوت خافت من دون مناسبة.
عبر المسؤولان عن أسفهما الشديد لما حصل من قتل ودمار، ولم يفتهما التعبير عن سعادتهما بالصداقة والتعاون الفرنسي الألماني في الوقت الراهن.
قالت ميركل بالحرف الواحد: "نحن محظوظون بوحدتنا"، وهي تدرك جيداً ما تعنيه. وقال الرئيس الفرنسي، في معرض حديثه عن الجنود الذين لقوا حتفهم في المعركة: "هؤلاء كانوا بشرا في عالم فقد إنسانيته"، وكأن العالم الآن يعج بالأخلاق والقيم الإنسانية.
وأنا أشاهد النقل المباشر للحدث، خُيّل إلي في لحظةٍ أن الجالسين أمام هولاند وميركل هم ضحايا الحرب أنفسهم، وقد بعثوا من قبورهم للمساءلة. كان المشهد أشبه بيوم قيامة مصغر. الجنة والنار: جنة الحاضر ونار الماضي.
لم يكن المسؤولان سعيدين، ولا حزينين، بل كانا سياسيين محنكين، يعكسان قوة واستقلالية بلديهما. كانا حذرين جداً، كما هو الحال دائماً مع زعماء الدول القوية فعلا ، على الرغم من القرابة الجغرافية والاقتصادية والسياسية التي قد تجمعهما. وفي هذا السياق، يحضرني مشهد الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، وهو يداعب الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، ذات يوم مشؤوم.
فهمنا من كلمتي الرئيس والمستشارة أن العلاقات بين الدولتين "سمن على عسل"، بفعل الرعاية السامية للاتحاد الأوروبي الذي عرف كيف يجمع أفراد عائلته الكبيرة، تحت سقف واحد.
لا شك في أن الملايين من الناس في آسيا وإفريقيا كانوا يعيشون لحظات رعبٍ حقيقية، داخل منازلهم المهددة بالقصف من "الناتو"، أو داخل مراكبهم المهدّدة بالغرق في عرض المتوسط أو بسبب المجاعة، في اللحظة نفسها التي كان يحتفي فيها الشعبان الألماني والفرنسي بصداقتهما وتقدمهما. لا حاجة لنا هنا إلى التذكير بالأدوار المباشرة وغير المباشرة التي يلعبها حلف الناتو في قتل هؤلاء الأبرياء.
كيف يدعو هؤلاء إلى السلم والحرية وهم يقتلون ويشردون الآلاف من الناس العزّل سنويا. "الآخر" لا يكون معنياً بكلامهم إلا إذا تحدثوا عن الإرهاب والقتل والتشريد...إلخ. أليست أوروبا سوراً له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب بتعبير القران الكريم؟ ألم يكن الروائي الروسي، دوستويفسكي، على صواب، عندما قال إن أكثر الشعوب تحضُّراً أشدُّها حبّاً لسفك الدماء؟
مقابرهم أجمل من مدننا وأحيائنا، حتى لا أقول بيوتنا. لا بد أن من شاهدها من اللاجئين والجوعى والمهجرين تمنى أن يستبدل حياته بقبر هادئ هناك! مقابرهم لا تثير الرعب في الأطفال. مقابرهم تستحق عبارة "فلترقد روحك بسلام".
سيدي الرئيس، كنت في قمة الإنسانية، عندما قلت بأن هؤلاء الجنود عاشوا في عالمٍ تخلى عن إنسانيته، وكأن العالم الآن مدينة أفلاطون الفاضلة.
لا أخفيكم أن الشيخ إمام كان يتراءى لي بين لحظة وأخرى، وهو جالس القرفصاء مع جموع الشباب يدندن، ويغني: فاليري جيسكار ديستان بصوت خافت من دون مناسبة.
مقالات أخرى
15 يونيو 2016