01 أكتوبر 2022
شكر متأخر للشيوعي المجهول
في ذكرى مرور مائة عام على الثورة البلشفية، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1917، ما زال الحدث يحتمل استخلاص الدروس أو التأملات. الدرس الأول: الزلازل لا تستثني أحداً.
يحتاج كل إنسان أن يعرف أنه ابن التراكم، ليتواضع كثيراً في ثقته بما يظنّها بديهيات. العمل ثماني ساعات في اليوم، التأمين الصحي، مدارس التعليم العام، الحد الأدنى للأجور .. إلخ، كلها ابنة نضالات وسجن وقتل ملايين البشر، كي تحصل أنت عليها اليوم.
تمنحنا تجربة الشيوعية زاوية مختلفة، وهي التراكم العكسي. كان وجود الحلم الشيوعي الهائل دافعاً إجبارياً للرأسمالية، لتقدم نسختها لتحقيق الأهداف نفسها. وإذا كانت الشيوعية تقدم حلها لسوء توزيع الثروة بسحق قدسية الملكية الفردية، عبر المصادرات والتأميمات، وإعادتها إلى الأفقر بالإنفاق الحكومي، أو بصورة مباشرة، كتوزيع الأراضي، فإن الرأسمالية قدّمت إجابتها أيضاً: سنصون الملكية الخاصة، لكن الدولة ستتدخل لتنتزع أموال الأغنياء بطريقة أخرى. وهكذا شهدنا دولة الرفاه، تعليماً ودراسة وصحة بالمجان، ورواتب تقاعدٍ وبطالة، نظير ضرائب ضخمة، قد تصل إلى سقف 60% على الكسب، أو على الميراث.
لم يكن ممكناً أن يرحل الاستعمار الصريح، وأن يظهر جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد، وكل الآباء المؤسسين في منطقتنا، لو لم يوجد الحلم الأحمر. .. الحلم الكبير، والفِعل الكبير، أمورٌ لا تزول حتى لو هُزمت.
الدرس الثاني: لا حقيقة واحدة. ما هي الشيوعية الحقيقية؟ هل هي ما حدث في الاتحاد السوفييتي أم في الصين، أم مع نسخة "داعش" الشيوعية في كمبوديا؟ وحتى داخل التجربة الواحدة: هل عصر لينين هو عصر ستالين؟ وهل يقدم تروتسكي "التفسير الصحيح" لماركس، أم يقدمه غيره؟ وما علاقة الصين الشيوعية المعاصرة بناطحات سحابها ورجال أعمالها، بصين ماو تسي تونغ بمراحلها الممتدة بدورها عبر "دع ألف زهرة تتفتح" و"الثورة الثقافية"؟ لا توجد شيوعية حقيقية واحدة، أو رأسمالية حقيقية، الإنسان يخلق المعنى ككُن فيكون.
الدرس الثالث: الطريق طويلٌ طويل. لم تكن الثورة البلشفية ستحدث أبداً لو لم تسبقها الثورة الروسية الأولى قبل 12 عاماً، على إثر "مسيرة الخبز" الأسطورية، حين سارت حشود الجوعى إلى قصر سانت بطرسبرغ، بينما ترفع الأمهات أرغفة الخبز، ثم عُجن الخبز بدماء مئات القتلى برصاص الحرس الملكي.
استمرت الثورة من فبراير/ شباط 1905 حتى أكتوبر، وانتهت بتقديم القيصر إصلاحات جزئية، تشمل السماح بإنشاء الأحزاب، ومنح البرلمان حق التشريع، كانت هذه التسوية الجمر الذي عاد إلى الاشتعال في 1917، وحينها تكرّرت قاعدة أنه لا بديل جذرياً للإصلاح إلا بكلفة هائلة ومفزعة: حرب أهلية بتدخلات خارجية، انتهت بمقتل مليون ونصف مليون مواطن على أقل تقدير.
الدرس الرابع: لن تعرف أبداً ألاعيب التاريخ. اليوم يرى شيوعيون معاصرون كثيرون أن التجربة السوفييتية لم تكن شيوعية أصلاً، حتى أنني قرأت في موقع للاشتراكيين الثوريين عنوان "محاربة التشويه الستاليني للاشتراكية". تحولت التجربة بسرعة إلى "رأسمالية الدولة" ودكتاتورية الطبقة البيروقراطية داخلياً، حيث قتل ستالين ملايين الفلاحين الذين يرفع شعارات الانتصار لهم. وخارجياً أنتجت نمطاً آخر من الامبريالية والاستغلال. انتهت الثورة عملياً مع النهاية السريعة لعهد لينين، ثم جاء ستالين، ليهمش رفاق الثورة السابقين، وفي مقدمتهم تروتسكي طبعاً، قائد الجيش الأحمر شخصياً.
لا يكفي أن تكون جزءاً من أعلى سلطة سياسية، وقائد الجيش المنتصر في حرب هائلة، يمكن أن تنتهي في المنفى ثم تُقتل. لا يكفي أن تنتصر الثورة ويتولى الحكم بالفعل الثائرون. لا ضمانات ولا يقين. ولأن كل الاحتمالات مفتوحة بالقدر نفسه، يبقى على الإنسان السعي والمحاولة ومغالبة الحياة والتاريخ.
الدرس الخامس: حقاً أثر الفراشة لا يزول. لا أحد يعرف الشيوعي المجهول الذي خرج للتظاهر في 1917 وقُتل. كان يمثل كل شيء لأسرته، ولا يمثل شيئاً لنا أو للتاريخ. وهو لم ير ما ساهم به أبداً، لكنه واحد من ملايين الذرات التي تراكمت، لتجعل عالمنا اليوم أكثر رحمةً، ولو قليلاً. شكراً لك، يا من لا نعرف، وشكراً لكل ذرة ما زالت تسعى اليوم في سبيل ما قد تراه، أو لن تراه أبداً.
يحتاج كل إنسان أن يعرف أنه ابن التراكم، ليتواضع كثيراً في ثقته بما يظنّها بديهيات. العمل ثماني ساعات في اليوم، التأمين الصحي، مدارس التعليم العام، الحد الأدنى للأجور .. إلخ، كلها ابنة نضالات وسجن وقتل ملايين البشر، كي تحصل أنت عليها اليوم.
تمنحنا تجربة الشيوعية زاوية مختلفة، وهي التراكم العكسي. كان وجود الحلم الشيوعي الهائل دافعاً إجبارياً للرأسمالية، لتقدم نسختها لتحقيق الأهداف نفسها. وإذا كانت الشيوعية تقدم حلها لسوء توزيع الثروة بسحق قدسية الملكية الفردية، عبر المصادرات والتأميمات، وإعادتها إلى الأفقر بالإنفاق الحكومي، أو بصورة مباشرة، كتوزيع الأراضي، فإن الرأسمالية قدّمت إجابتها أيضاً: سنصون الملكية الخاصة، لكن الدولة ستتدخل لتنتزع أموال الأغنياء بطريقة أخرى. وهكذا شهدنا دولة الرفاه، تعليماً ودراسة وصحة بالمجان، ورواتب تقاعدٍ وبطالة، نظير ضرائب ضخمة، قد تصل إلى سقف 60% على الكسب، أو على الميراث.
لم يكن ممكناً أن يرحل الاستعمار الصريح، وأن يظهر جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد، وكل الآباء المؤسسين في منطقتنا، لو لم يوجد الحلم الأحمر. .. الحلم الكبير، والفِعل الكبير، أمورٌ لا تزول حتى لو هُزمت.
الدرس الثاني: لا حقيقة واحدة. ما هي الشيوعية الحقيقية؟ هل هي ما حدث في الاتحاد السوفييتي أم في الصين، أم مع نسخة "داعش" الشيوعية في كمبوديا؟ وحتى داخل التجربة الواحدة: هل عصر لينين هو عصر ستالين؟ وهل يقدم تروتسكي "التفسير الصحيح" لماركس، أم يقدمه غيره؟ وما علاقة الصين الشيوعية المعاصرة بناطحات سحابها ورجال أعمالها، بصين ماو تسي تونغ بمراحلها الممتدة بدورها عبر "دع ألف زهرة تتفتح" و"الثورة الثقافية"؟ لا توجد شيوعية حقيقية واحدة، أو رأسمالية حقيقية، الإنسان يخلق المعنى ككُن فيكون.
الدرس الثالث: الطريق طويلٌ طويل. لم تكن الثورة البلشفية ستحدث أبداً لو لم تسبقها الثورة الروسية الأولى قبل 12 عاماً، على إثر "مسيرة الخبز" الأسطورية، حين سارت حشود الجوعى إلى قصر سانت بطرسبرغ، بينما ترفع الأمهات أرغفة الخبز، ثم عُجن الخبز بدماء مئات القتلى برصاص الحرس الملكي.
استمرت الثورة من فبراير/ شباط 1905 حتى أكتوبر، وانتهت بتقديم القيصر إصلاحات جزئية، تشمل السماح بإنشاء الأحزاب، ومنح البرلمان حق التشريع، كانت هذه التسوية الجمر الذي عاد إلى الاشتعال في 1917، وحينها تكرّرت قاعدة أنه لا بديل جذرياً للإصلاح إلا بكلفة هائلة ومفزعة: حرب أهلية بتدخلات خارجية، انتهت بمقتل مليون ونصف مليون مواطن على أقل تقدير.
الدرس الرابع: لن تعرف أبداً ألاعيب التاريخ. اليوم يرى شيوعيون معاصرون كثيرون أن التجربة السوفييتية لم تكن شيوعية أصلاً، حتى أنني قرأت في موقع للاشتراكيين الثوريين عنوان "محاربة التشويه الستاليني للاشتراكية". تحولت التجربة بسرعة إلى "رأسمالية الدولة" ودكتاتورية الطبقة البيروقراطية داخلياً، حيث قتل ستالين ملايين الفلاحين الذين يرفع شعارات الانتصار لهم. وخارجياً أنتجت نمطاً آخر من الامبريالية والاستغلال. انتهت الثورة عملياً مع النهاية السريعة لعهد لينين، ثم جاء ستالين، ليهمش رفاق الثورة السابقين، وفي مقدمتهم تروتسكي طبعاً، قائد الجيش الأحمر شخصياً.
لا يكفي أن تكون جزءاً من أعلى سلطة سياسية، وقائد الجيش المنتصر في حرب هائلة، يمكن أن تنتهي في المنفى ثم تُقتل. لا يكفي أن تنتصر الثورة ويتولى الحكم بالفعل الثائرون. لا ضمانات ولا يقين. ولأن كل الاحتمالات مفتوحة بالقدر نفسه، يبقى على الإنسان السعي والمحاولة ومغالبة الحياة والتاريخ.
الدرس الخامس: حقاً أثر الفراشة لا يزول. لا أحد يعرف الشيوعي المجهول الذي خرج للتظاهر في 1917 وقُتل. كان يمثل كل شيء لأسرته، ولا يمثل شيئاً لنا أو للتاريخ. وهو لم ير ما ساهم به أبداً، لكنه واحد من ملايين الذرات التي تراكمت، لتجعل عالمنا اليوم أكثر رحمةً، ولو قليلاً. شكراً لك، يا من لا نعرف، وشكراً لكل ذرة ما زالت تسعى اليوم في سبيل ما قد تراه، أو لن تراه أبداً.