01 نوفمبر 2024
شمعة في مئويته
ذات يوم، في أول ثمانينيات القرن الماضي، أيقظني والدي من النوم، ليخبرني أن لديه لي مفاجأة سوف تسرني كثيرا. ظننت لوهلةٍ أنه أحضر لي الأجزاء الأربعة من كتاب ألف ليلة وليلة، غير المنقحة، والتي كنت طلبتها منه قبلا، وكان قد أعارها لصديق له، لم يرجعها إلا بعد أشهر طويلة. لم تكن المفاجأة إذا هي الكتاب المروم، بل كانت شريط كاسيت للشيخ إمام، أحضره معه شاعر مصري صديق لوالدي، كان في ضيافتنا الليلة السابقة في دمشق. كان والدي الذي لم يعترض يوما على ميولي الشيوعية، على الرغم من أنه كان بعثي النشأة، كان يعرف أنني أستمع إلى الشيخ إمام سرا عن الجميع، كان يعرف جيدا كم أحب أغنياته.
كان تداول كاسيتات الشيخ إمام، في تلك الفترة، يشبه تداول المنشورات السرية. كان ممنوعا في كل الدول العربية تقريبا، إذ كان صوته، وهو يغني كلمات الراحل أحمد فؤاد نجم، كافيا لإدانة من يستمعون إليه، واتهامهم بالانتماء إلى تنظيماتٍ معاديةٍ للأنظمة الحاكمة. كان المد اليساري، في تلك الفترة، يشبه الموجة الجارفة. أظن أن معظم أبناء جيلي، والجيلين السابق واللاحق له، انخرطوا في موجة اليسار والتغيير الثوري التي كانت سائدة. وكان الشيخ إمام بمثابة العلامة التي تدلّ على الدخول في عباءة اليسار، تماما كصور غيفارا المعلقة، بفخر، على جدران غرفنا.
كان ذلك كله قبل أن يظهر على الساحة الثورية مارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وفرقتا الأرض والطريق، وكثيرون، ممن قدّموا الأغاني الملتزمة بالقضية الفلسطينية والنضال الثوري الأممي، وقضايا الفقراء والعمال والكادحين، ذلك كله أيضا قبل أن تتمكّن الأنظمة العربية الاستبدادية من تمييع كل القضايا الوطنية وامتصاص ثورة المنتمين لها، وتصفيتها لاحقا لصالح تنظيماتٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ، احتكرت القضية والفعل الوطني بشعاراتٍ فضفاضة، أوصلت بلادنا وأجيالنا إلى ما نحن فيه الآن من خرابٍ ودمارٍ وانحطاطٍ لم يمر على بلادنا شبيه له.
لم يكن الشيخ إمام مجرد مغنٍّ ملتزم. كان أكثر من ذلك لكثيرين منا. كان صوته حاملا لقصائد نجم الرائعة بألحانٍ بسيطة، لكنها بالغة الحساسية. صوته أيضا كان بسيطا. ولكن كانت فيه مساحة من السخرية ومن الحزن في آن معا، تشبه الواقع الذي يعيشه الشيخ المغني الكفيف، وتشبه واقع الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، الطبقة التي خرج منها اليسار العربي تلك المرحلة. وعلى الرغم من شهرة أغانيه السياسية الآنية، ثمّة أغنيات له بقيت خالدة ومستمرة، ولم تفقد ألقها وحضورها، من يمكنه أن ينسى "البحر بيضحك ليه"، أو "سايس حصانك" أو "الخط ده خطي" أو "قيدوا شمعة" أو "بستنظرك" أو "أنا توب عن حبك أنا" أو "وهبت عمري للأمل" التي كتبها الرائع فؤاد قاعود، وغيرها الكثير الكثير من ذلك الإرث الجميل والاستثنائي، وبقي خالدا لفرط أصالته، على عكس الكثير أو معظم الفن الملتزم الذي جاء بعده، لم يبق منه إلا النزر اليسير، سقط كله مع سقوط المد الوطني التقدمي.
هل كان السبب أن ثنائية إمام نجم جاءت من قلب الشعب المصري، حيث التتلمذ على المقامات والأدوار العربية الأصيلة، ومتكئة على معاناة حقيقة عانت ما عانت من الفقر والجوع والقمع والاعتقال، فالشيخ إمام هو أول مغنٍّ عربي يعتقل بسبب أغنياته، حيث اعتقله جمال عبد الناصر بعد النكسة، وظل فترات طويلة يعتقل ويخرج ويعتقل مع منعه من الغناء أو إذاعة أغنياته علنا! بينما كان حال الآخرين حال كثيرين من يساريي تلك المرحلة، أتوا من الطبقة الوسطى، وعلاقتهم باليسار الثوري ليست أصيلة، وهو ربما ما جعل كثيرين من يساريي تلك المرحلة يعودون لاحقا من هوية أممية إلى هوية مذهبية وطائفية وقبلية ومصلحية، وهو ما كشفت عنه أخيرا ثورات الربيع العربي التي أسقطت الأقنعة عن التيارات اليسارية والقومية، مثل إسقاطها أقنعة الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي.
تمر هذه الأيام ذكرى مئوية ميلاد الشيخ إمام، وهي مناسبة لا لتذكّره فقط، بل للتحسّر والأسف على الربيع العربي، وعلى حال هذه الأمة المنكوبة بكل ما فيها، وللسؤال الذي سأله كثيرون: تُرى، لو كان الشيخ إمام حيا، ماذا كان سيختار من أغنياته، ليعبر عن واقعنا الحالي؟
كان تداول كاسيتات الشيخ إمام، في تلك الفترة، يشبه تداول المنشورات السرية. كان ممنوعا في كل الدول العربية تقريبا، إذ كان صوته، وهو يغني كلمات الراحل أحمد فؤاد نجم، كافيا لإدانة من يستمعون إليه، واتهامهم بالانتماء إلى تنظيماتٍ معاديةٍ للأنظمة الحاكمة. كان المد اليساري، في تلك الفترة، يشبه الموجة الجارفة. أظن أن معظم أبناء جيلي، والجيلين السابق واللاحق له، انخرطوا في موجة اليسار والتغيير الثوري التي كانت سائدة. وكان الشيخ إمام بمثابة العلامة التي تدلّ على الدخول في عباءة اليسار، تماما كصور غيفارا المعلقة، بفخر، على جدران غرفنا.
كان ذلك كله قبل أن يظهر على الساحة الثورية مارسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وفرقتا الأرض والطريق، وكثيرون، ممن قدّموا الأغاني الملتزمة بالقضية الفلسطينية والنضال الثوري الأممي، وقضايا الفقراء والعمال والكادحين، ذلك كله أيضا قبل أن تتمكّن الأنظمة العربية الاستبدادية من تمييع كل القضايا الوطنية وامتصاص ثورة المنتمين لها، وتصفيتها لاحقا لصالح تنظيماتٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ، احتكرت القضية والفعل الوطني بشعاراتٍ فضفاضة، أوصلت بلادنا وأجيالنا إلى ما نحن فيه الآن من خرابٍ ودمارٍ وانحطاطٍ لم يمر على بلادنا شبيه له.
لم يكن الشيخ إمام مجرد مغنٍّ ملتزم. كان أكثر من ذلك لكثيرين منا. كان صوته حاملا لقصائد نجم الرائعة بألحانٍ بسيطة، لكنها بالغة الحساسية. صوته أيضا كان بسيطا. ولكن كانت فيه مساحة من السخرية ومن الحزن في آن معا، تشبه الواقع الذي يعيشه الشيخ المغني الكفيف، وتشبه واقع الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، الطبقة التي خرج منها اليسار العربي تلك المرحلة. وعلى الرغم من شهرة أغانيه السياسية الآنية، ثمّة أغنيات له بقيت خالدة ومستمرة، ولم تفقد ألقها وحضورها، من يمكنه أن ينسى "البحر بيضحك ليه"، أو "سايس حصانك" أو "الخط ده خطي" أو "قيدوا شمعة" أو "بستنظرك" أو "أنا توب عن حبك أنا" أو "وهبت عمري للأمل" التي كتبها الرائع فؤاد قاعود، وغيرها الكثير الكثير من ذلك الإرث الجميل والاستثنائي، وبقي خالدا لفرط أصالته، على عكس الكثير أو معظم الفن الملتزم الذي جاء بعده، لم يبق منه إلا النزر اليسير، سقط كله مع سقوط المد الوطني التقدمي.
هل كان السبب أن ثنائية إمام نجم جاءت من قلب الشعب المصري، حيث التتلمذ على المقامات والأدوار العربية الأصيلة، ومتكئة على معاناة حقيقة عانت ما عانت من الفقر والجوع والقمع والاعتقال، فالشيخ إمام هو أول مغنٍّ عربي يعتقل بسبب أغنياته، حيث اعتقله جمال عبد الناصر بعد النكسة، وظل فترات طويلة يعتقل ويخرج ويعتقل مع منعه من الغناء أو إذاعة أغنياته علنا! بينما كان حال الآخرين حال كثيرين من يساريي تلك المرحلة، أتوا من الطبقة الوسطى، وعلاقتهم باليسار الثوري ليست أصيلة، وهو ربما ما جعل كثيرين من يساريي تلك المرحلة يعودون لاحقا من هوية أممية إلى هوية مذهبية وطائفية وقبلية ومصلحية، وهو ما كشفت عنه أخيرا ثورات الربيع العربي التي أسقطت الأقنعة عن التيارات اليسارية والقومية، مثل إسقاطها أقنعة الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي.
تمر هذه الأيام ذكرى مئوية ميلاد الشيخ إمام، وهي مناسبة لا لتذكّره فقط، بل للتحسّر والأسف على الربيع العربي، وعلى حال هذه الأمة المنكوبة بكل ما فيها، وللسؤال الذي سأله كثيرون: تُرى، لو كان الشيخ إمام حيا، ماذا كان سيختار من أغنياته، ليعبر عن واقعنا الحالي؟