شهوة القتل

18 يونيو 2015

ممدوح عدوان: الحاكم القاتل يريد شعبه أرانب أو فئراناً

+ الخط -
4- يبقى غرام الطاغية بنسائه أمراً يخصه ويخصهن، على عكس الغرام الشعبي بالطاغية، الذي يتجاوز كونه غراماً بشخص، ليصبح غراما ًبقدرة الطاغية على سفك الدماء وقمع الآراء المختلفة، وهو ما ينتج أثراً مدمراً، يستمر فترة تطول أو تقصر، حسب قدرة الشعوب على مراجعة نفسها، وتجنبها تكرار أخطاء الماضي المؤلمة. 
في كتابه المهم (حيونة الإنسان)، يناقش الكاتب العظيم ممدوح عدوان فكرة استغلال الأنظمة الاستبدادية غريزة القتل لدى الإنسان، بدءاً من العصور القديمة التي كان الحكام يستغلون فيها مشاهد سفك الدماء في حلبات المصارعة الرومانية، لكي يثيروا في الناس شهوات عارمة، كانت تؤدي إلى عربدات جنسية عفوية في بعض الأحيان. في زمن لاحق، يصف لنا كتاب (التعذيب عبر العصور) نقلاً عن الدوق دوريشلو عملية حرق شخص أدانته محكمة تفتيش إسبانية، فيقول إن رائحة اللحم المشوي كانت شديدة، حتى ملأت جو المحكمة كله، وجعلت الجمهور يثار بشدة بالعرض الوحشي الذي يجري أمامهم. وفي حين كان بعضهم يتساءلون متى سيكف هذا التعيس البائس عن التخبط، وهو يتلظى في لهيب النار، كان آخرون قد انتشوا إلى درجة أنهم بدأوا يتضاجعون على الأرصفة.
لم يعد لممارسات كهذه مكان في زماننا الذي يتخفى القمع فيه خلف أقنعة الدين والأخلاق، لكن النشوة الجماعية بالقتل لا زالت قائمة، وإن اختلفت مظاهرها ووسائل التعبير عنها، ولعلك رأيتها، مثلاً، في ردود الأفعال الحماسية التي أعقبت مذبحة رابعة، حيث سادت مصر حالة من الجنون الجماعي، دفعت مصريين كثيرين إلى أفعال غريبة، لا تتناسب مع احترام قدسية الموت، فالذين قُتلوا في رابعة بالنسبة لهؤلاء لم يكونوا بشراً عاديين، بل كانوا وحوشاً تهددهم بالذبح وخراب الديار. ولذلك، قابلوا قتلهم بالفرحة والابتهاج، من دون إدراك لأن أي أخطاء ارتكبها هؤلاء لا تبرر أبداً قتلهم، ومن دون تفكير، ولو حتى من باب المصلحة العامة، في آثار هذا القتل على استقرار البلاد، وأنه سيستخدم مستقبلاً لتبرير قتل ضباط وجنود وقضاة، والحشد لقتل سياسيين وإعلاميين وعسكريين، من دون التعامل معهم أنهم بشر يستحقون الحياة، وأن أخطاءهم تستحق المحاكمة العادلة، لا التصفية الجسدية، وأن عبد الفتاح السيسي سيستخدم ذلك كله، لتبرير ما قام به من قتل، ولاستخدام كل تلك الدماء في إشاعة مناخ من الخوف، يجعل الملايين يفكرون تحت وطأة الخوف بغرائزهم، وليس بعقولهم، وليصبح لدينا كما يقول ممدوح عدوان "حيوانات ضارية حاكمة، تستمتع بقتل حيوانات مذعورة، وحيوانات تستمتع بقتل حيوانات أخرى أو بالفرجة على قتل الحيوانات الأخرى وتعذيبهم".
ستجد توظيف حب الشعب للطاغية في تبرير القتل أمراً مشتركاً بين الأنظمة القمعية كافة، وستجد نتائجه في إثارة غرائز الشعوب مدهشة ومؤلمة، وكارثية في نهاية المطاف، لكن أحداً لا يتعلم للأسف، لأن شهوة القتل تعمي وتُصم عن قراءة دروس التاريخ، فالحاكم القاتل لا يهمه، بالطبع، أن يتطور البشر، ولا حتى أن يظلوا بشراً، بل يريد كما ينبهنا ممدوح عدوان أن يحول شعبه إلى نمطين من الحيوانات: الأرانب أو الفئران المذعورة التي يتم تصنيعها على أيدي حيوانات أخرى، هي الذئاب الشرهة للدم، فيصبح الناس في ظل الحاكم القاتل نوعين: "أناس عبارة عن جلود وآخرون عبارة عن سياط، ويعيش الطرفان من دون إرادة أو حرية أو كرامة"، ويصبح بقاء الحاكم القاتل على الكرسي فترة طويلة، متوقفاً على مهارته في إدارة الصراع بين الطرفين، وفي إلقاء الكم اللازم من الفُتات للأطراف التي يحتاج إلى دعمها، حتى لا تنفجر غاضبة، فتطيحه من على كرسي الحكم.
حين نرى، في ظل ظروف كهذه، أناساً كنا نظنهم طيبين، يتطوعون بتبرير القتل والقمع، ينبهنا العلم إلى خطأ الافتراض الدائم بأن الإنسان الطيب يظل دائماً طيباً، وينبهنا أيضاً إلى آلية الإزاحة التي تجعل بعض الناس "الطيبين" يشاركون، أحياناً، في ارتكاب المجازر، فضلاً عن تبريرها، لأنهم يزيحون مسؤولية ما جرى إلى السلطة التي تقول لهم إنها تحمي الوطن، وتحفظه من الضياع، لكن السلطة لا تنجح في ذلك إلا إذا أقنعت، أولاً، من يشاركها في جرائمها، بأن ضحايا تلك الجرائم مجردون من الإنسانية، حتى تضمن عدم تسرب مشاعر الشفقة إليهم، والجميع ينسى أنك حين تفقد الإنسانية في التعامل مع خصومك، تأذن لهم بالتحول إلى حيوانات متوحشة، وحينها تبدأ الأطراف الأضعف في افتراس بعضها، ويظل الحاكم آمناً، إلى حين ينفجر الوطن بكل من فيه، وعلى كل من فيه، أنصاراً كانوا أم خصوماً، جلادين أم ضحايا.
"وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.