الحديث عن شواطئ العاصمة اللبنانية وتاريخها لا ينتهي. يحمل معه الكثير من الذكريات العتيقة المميزة. ويعيدنا إلى مساحات عامة كانت مفتوحة للجميع، وها هي تتقلص يوماً بعد يوم
"نحن عيدنا البحر".. يقولها غازي في أول أيام عيد الفطر الماضي. السبعيني ذو الجسد المشدود الذي لا يعاني من انحناء أو تعب، ينزل يومياً إلى الصخور المترامية تحت كورنيش المنارة في بيروت، تحديداً الواقعة إلى الشمال من مسبح الجامعة الأميركية. وبينما يستعد لجولته اليومية وهو يشدّ نظارات السباحة جيداً، يقول إنه يمارس هذا الروتين منذ أكثر من أربعين عاماً، ولا يغيب عن البحر أبداً حتى في الشتاء، بالرغم من تناقص المساحات العامة سنة بعد أخرى.
الجميع يعلم بمشاكل تلك المساحات في العاصمة اللبنانية. فمن شواطئ بيروت الجنوبية الرملية وصولاً إلى شواطئها الصخرية قبل مرفأ المدينة البحري، لم يبق الكثير للناس. بعض المسابح الخاصة اتخذ منذ زمن بعيد أماكن على طول الخط الساحلي، ومن بينها "سان جورج"، وريفييرا"، و"النادي العسكري"، ولونغ بيتش" و"سبورتنغ" و"موفنبيك"، و"سمرلاند" و"كورال بيتش". وبعضها الآخر اندثر تماماً ومنها "القنديل" "وحمّام النجمة" و"بان فرانسيه" و"حمّام الجمل". وبينما لكلّ مسبح ومقهى بحري حكاية تنقلنا إلى منتصف القرن الماضي وأحياناً أبعد، فإنّ لكلّ مساحة بحرية عامة، سابقة وحالية، أيضاً حكاياتها الضاربة في القدم.
الحاج أبو سعيد أياس لا يبدو عليه هذا العمر المديد. نعم هو عجوز ويمشي ببطء لكن أن يكون في التسعين تماماً ويمشي يومياً على كورنيش المنارة ويسبح ثلاث مرات أسبوعياً، فهو أمر مدهش.
"لا لسنا من العائلات الصغيرة في بيروت.. أنا ابن بلد، وكان لنا سوق أياس بالقرب من ساحة البرج، وبنايات بالقرب من الجامعة الأميركية قبل أن يعمر حجر على حجر هناك"، يقول الحاج لـ"العربي الجديد" بفخر.
يذكر بعض التفاصيل عن مقهى الحاج داوود البحري في منطقة الزيتونة القريب من عدة مسابح ومساحات مفتوحة للسباحة. ومن المعروف اليوم أنّ الجهة البحرية من منطقة الزيتونة تشهد خلافاً كبيراً اليوم، وسط اتهامات من منظمات المجتمع المدني لبعض الرأسماليين بالاستيلاء على الأملاك البحرية. كان من رواد "الحاج داوود" مع غيره من أبناء جيله في الأربعينيات والخمسينيات. فالمقهى كان "يقدم لقمة فول طيبة" بالإضافة إلى المأكولات الأخرى والمشروبات والنراجيل. لكن بالرغم من أنّه من مواليد 1926 فإنّ ذاكرته تخونه لدى سؤاله عن هوية الحاج داوود، وهو داوود خطّاب الذي تذكر بعض المصادر أنّه أنشأ المقهى عام 1900.
اقــرأ أيضاً
"نحن عيدنا البحر".. يقولها غازي في أول أيام عيد الفطر الماضي. السبعيني ذو الجسد المشدود الذي لا يعاني من انحناء أو تعب، ينزل يومياً إلى الصخور المترامية تحت كورنيش المنارة في بيروت، تحديداً الواقعة إلى الشمال من مسبح الجامعة الأميركية. وبينما يستعد لجولته اليومية وهو يشدّ نظارات السباحة جيداً، يقول إنه يمارس هذا الروتين منذ أكثر من أربعين عاماً، ولا يغيب عن البحر أبداً حتى في الشتاء، بالرغم من تناقص المساحات العامة سنة بعد أخرى.
الجميع يعلم بمشاكل تلك المساحات في العاصمة اللبنانية. فمن شواطئ بيروت الجنوبية الرملية وصولاً إلى شواطئها الصخرية قبل مرفأ المدينة البحري، لم يبق الكثير للناس. بعض المسابح الخاصة اتخذ منذ زمن بعيد أماكن على طول الخط الساحلي، ومن بينها "سان جورج"، وريفييرا"، و"النادي العسكري"، ولونغ بيتش" و"سبورتنغ" و"موفنبيك"، و"سمرلاند" و"كورال بيتش". وبعضها الآخر اندثر تماماً ومنها "القنديل" "وحمّام النجمة" و"بان فرانسيه" و"حمّام الجمل". وبينما لكلّ مسبح ومقهى بحري حكاية تنقلنا إلى منتصف القرن الماضي وأحياناً أبعد، فإنّ لكلّ مساحة بحرية عامة، سابقة وحالية، أيضاً حكاياتها الضاربة في القدم.
الحاج أبو سعيد أياس لا يبدو عليه هذا العمر المديد. نعم هو عجوز ويمشي ببطء لكن أن يكون في التسعين تماماً ويمشي يومياً على كورنيش المنارة ويسبح ثلاث مرات أسبوعياً، فهو أمر مدهش.
"لا لسنا من العائلات الصغيرة في بيروت.. أنا ابن بلد، وكان لنا سوق أياس بالقرب من ساحة البرج، وبنايات بالقرب من الجامعة الأميركية قبل أن يعمر حجر على حجر هناك"، يقول الحاج لـ"العربي الجديد" بفخر.
يذكر بعض التفاصيل عن مقهى الحاج داوود البحري في منطقة الزيتونة القريب من عدة مسابح ومساحات مفتوحة للسباحة. ومن المعروف اليوم أنّ الجهة البحرية من منطقة الزيتونة تشهد خلافاً كبيراً اليوم، وسط اتهامات من منظمات المجتمع المدني لبعض الرأسماليين بالاستيلاء على الأملاك البحرية. كان من رواد "الحاج داوود" مع غيره من أبناء جيله في الأربعينيات والخمسينيات. فالمقهى كان "يقدم لقمة فول طيبة" بالإضافة إلى المأكولات الأخرى والمشروبات والنراجيل. لكن بالرغم من أنّه من مواليد 1926 فإنّ ذاكرته تخونه لدى سؤاله عن هوية الحاج داوود، وهو داوود خطّاب الذي تذكر بعض المصادر أنّه أنشأ المقهى عام 1900.
من الرملة إلى الروشة
مثل تلك الذاكرة يمتلكها جيداً مدير شاطئ الرملة البيضاء العام نزيه الريّس. يستعيد أسماء المسابح الخاصة المفتوحة أمام الجميع لكن برسم دخول قبل الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975. منها "أكابولكو" و"سان سيمون" و"سان ميشال" أقصى جنوب الساحل البيروتي، في المنطقة المعروفة اليوم بالجناح والتي باتت من أفقر المناطق بما تضمه من خليط سكاني لبناني ووافد، وكذلك فوضى عمرانية وتنظيمية شاملة. هذه المسابح كانت "للطبقة الميسورة" كما يقول الريّس، حتى إنّ رئيس الجمهورية اللبنانية الراحل كميل شمعون، وأسماء أخرى، كانت ترتادها.
أما الرملة البيضاء فيذكر أنّ الشاطئ كان أكبر بكثير وأعرض، خصوصاً قبل إنشاء الطريق السريع المحاذي له. كما كان يخترق نهاية الشاطئ الحالي من الجهة الشمالية مجرى نبع أبو شاهين الآتي من منطقة ساقية الجنزير. ومصبّه قريب جداً من مقهى غلاييني الذي أنشئ مكانه منتجع "موفنبيك" لاحقاً، وقبل ذلك نادي "ماريلاند".
يصل الريّس إلى الدالية، أو "ميّة الدالية" وهي المنطقة الصخرية التي تمتد من مقهى غلاييني إلى الروشة. هناك تعلّم السباحة صغيراً: "لست وحدي، بل معظم أهل بيروت تعلموا هناك، فالصخور تحيط البحر من كلّ جانب في ممر ضيق يمنع الخطر عن السباحين الصغار. أما من يصبح ماهراً فيخرج إلى البلاطة، وهي المنطقة المكشوفة على البحر خارج الدالية، ومياهها عميقة".
في الدالية، يشير الريّس إلى أنّ شخصاً كان يعرف باسم أبو العبد أنشأ غرفاً في الصخور في ذلك الزمن، بعضها من المغارات القائمة هناك، من أجل تغيير الرواد ملابسهم. كما كان يؤجرهم حسكات (قطعة خشب عائمة يقف عليها الشخص ويقودها بمجداف واحد كبير وقوفاً أو جلوساً). وكان أيضاً يبيعهم بعض المأكولات كسندويشات المقالي المتنوعة من بطاطا وباذنجان وقرنبيط.
بالقرب من الدالية، هناك منطقة سباحة صخرية أخرى، هي "الخمس برك". وكما يدلّ اسمها فهي عبارة عن خمس برك طبيعية مختلفة الأعماق، تغيّر الأمواج مياهها شيئاً فشيئاً لكنّ الحواجز الصخرية تحميها من ضربات الأمواج. يتعلم فيها الأطفال السباحة شيئاً فشيئاً، فينتقلون من عمق إلى آخر. وعندما يتقنون السباحة ينزلون عندها إلى منطقة الروشة، أي تجاه الصخرة تماماً. وهي المنطقة التي تضمّ قفزات مرتفعة تتجاوز 20 متراً. كما أنّ فيها مغارة طبيعية مليئة بالخفافيش، يمكن عبورها سباحة للوصول إلى جهة أخرى من المنطقة.
يحدّث الريّس "العربي الجديد" عن الشاطئ الذي لا يعرف كثيرون عنه أسفل الكورنيش البحري المواجه لصخرة الروشة. هذا الشاطئ لا يمكن الوصول إليه إلاّ عن طريق البحر: "الزجاج الملون الذي كان فيه بين الحصى الناعم كنز يجعله من أجمل الشطآن، لكنّ أحداً سرق الكثير منه أخيراً". كما يشير إلى أنّه سابقاً كان يلتقط الكثير الكثير من التوتيا (قنفذ البحر) من المنطقة، لكنّ الأعداد تقلصت شيئاً فشيئاً. وهي مشكلة يردّها إلى التلوّث.
آثار بيئية وحماية
بالحديث عن التلوث، تقول رئيسة جمعية "الأزرق الكبير" التي تتولى إدارة شاطئ الرملة البيضاء وحماية غيره من الشواطئ اللبنانية، عفت إدريس شاتيلا إنّ مياه الصرف الصحي الموجهة إلى الرملة البيضاء من الجهة الجنوبية تؤثر على نوعية المياه، وبالتالي على الكائنات فيها. تشير إلى أنّ المياه المقابلة للرملة البيضاء تعيش فيها العديد من الكائنات، كالدلفين وفراشة البحر وحصان البحر وصدف أم الخلود وصدف الموريكس والسرطانات المتنوعة وقيثارات البحر. كما تضمّ المنطقة عائلة فقمة معروفة بـ"فقمة الراهب" أو "فقمة الناسك" كان لها مغارة معروفة باسمها. حتى إنّها تشير إلى أنّ أحد الحيتان الضخمة مدفون في رمال الشاطئ منذ الستينيات. وعدا عن المياه الآسنة فإنّ النفايات البلاستيكية تشكل مغناطيساً لسموم التوكسين في الماء والتي تضرّ بالكائنات البحرية، كما أنّ الأسماك قد تأكلها.
تعمل الجمعية الآن على حماية الشاطئ بما يتوفر لها، في إطار خطة إدارية تلحظ أربع نقاط، هي: الإدارة البيئية التي تهتم بسلامة الماء والكائنات فيها، والمعلومات التي تتضمن إنشاء مرصد ومختبر علمي بحري، والسلامة والخدمات التي تهتم بالرواد تحديداً وما يقدم إليهم من خدمات ومن ضمنها مياه التحلية، والرابعة هي التوعية التي تتضمن مدرسة بحرية للأطفال.
تشير إدريس شاتيلا إلى أنّ شاطئ الرملة البيضاء خسر 20 متراً من عرضه منذ عام واحد فقط. وهو ما يتضح فعلاً من خلال اقتراب الماء من الطريق بشكل واضح. تقول إنّ هناك عدة مؤشرات لأسباب ذلك منها الصرف الصحي، ومنها الرصيف البحري الذي أنشأه مشروع مسبح قريب. وهذا التناقص يؤدي إلى الإضرار بالكائنات التي تعيش على الرمل كونه يضرّ ببيئتها.
اقــرأ أيضاً
من أجل السيّاح
بالعودة إلى شواطئ اللبنانيين التي تختفي شيئاً فشيئاً يودعنا الريّس بخبر غريب ومضحك عن شخص زرع الثوم فوق صخرة الروشة بالذات، علماً أنّ الصخرة (الكبيرة بين الاثنتين) التي يبلغ ارتفاعها 46 متراً لا يمكن الوصول إليها إلاّ عبر البحر، وتسلقاً.
وبالانتقال إلى الجهة السفلية من رأس بيروت، إلى الشمال من الروشة، ليس هناك أفضل من صيادي ميناء المنارة الجديدة للحديث عن ماضي المنطقة.
أمام التينة الوحيدة والسلالم الحجرية، وبنكهة القهوة الساخنة جداً والحلوة إلى أقصى حدّ، يشكو الصيادون دائماً همومهم الحياتية. ويؤكد الريس محمود أنّ ميناء الصيد هذا مصدر الرزق الوحيد لـ250 عائلة. وبالحديث عن ماضي المكان يقفز الصياد العتيق أبو رامي الذي كان ممدداً في فيء أرض المكان الإسمنتية لا يرتدي أكثر من سروال السباحة القصير. يقول إنّ هذه المنطقة لم يكن فيها على عهده سوى مسبحي "سبورتنغ" و"لونغ بيتش" أما النادي العسكري الذي تمدد شيئاً فشيئاً حتى بات يحتل أكبر مساحة، فإنّه كان مركزاً عسكرياً صغيراً ورثه الجيش اللبناني من الفرنسيين بعد الاستقلال (1943) وبقي على هذه الحال فترة طويلة. ومع كلّ توسعة له كان الصيادون يُطردون وتتقلص مساحتهم ومساحة السبّاحين بالقرب منهم، حتى لم يبق لهم أكثر من ميناء صغير صدر ترخيصه بمرسوم جمهوري في أواخر التسعينيات في عهد الرئيسين الياس الهراوي ورفيق الحريري.
من ميناء الصيادين عند المنارة البحرية، حتى مرفأ بيروت لم تبق إلا مساحات صخرية محدودة مجانية يمكن ارتيادها من أجل السباحة والصيد بالصنارة، بالإضافة إلى أنّ المياه الآسنة مسلطة عليها. هذه المساحات يمكن إحصاؤها كالآتي: المساحة الواقعة بين الميناء وحائط مسبح "كورال بيتش" الغربي، والواقعة بين حائط كورال بيتش الشرقي وميناء جلّ البحر، وبين حائط الميناء الشرقي ومسبح الجامعة الأميركية، ومساحتان صغيرتان تقعان بين مسبح الجامعة الأميركية وعين المريسة. أما المنطقة الواقعة بين عين المريسة ومرفأ بيروت فهي لا تضم أيّ مكان عام مجاني للسباحة بما فيها مساحات كانت في زمن سابق مفتوحة للجميع.
عن تلك المنطقة بالذات يتحدث عبد الله مصطفى، البحري الذي عمل في أحد مسابح رأس بيروت أكثر من خمسين عاماً. يشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّه مع أهله كانوا من سكان عين المريسة. وهناك بالضبط تسلّم والده الذي كان يملك مركباً بمحرك -وهو شيء مميز في تلك الفترة في خمسينيات القرن الماضي- إدارة "حمّام النجمة" الذي كان مسبحاً معروفاً طوال فترة كبيرة. يروي أنّ هناك مسبحاً آخر بالقرب منه اسمه "القنديل"، وثالثاً في الجهة الغربية من عين المريسة وهو "حمّام الجمل".
من جهته، بادر نبيل، وهو من رواد الصخور الملاصقة لمسبح الجامعة الأميركية، إلى استصلاح مساحة صغيرة لا تتعدى مترين بمترين كانت مليئة بالصخور الناتئة كباقي الأماكن. كسّرها وصبّ فيها أسمنتاً حتى باتت أرضاً مستوية. كان ذلك عام 2000 كما يقول لـ"العربي الجديد". وقبل أن يدخل في نقاش سياسي طويل يتعلق بالانتخابات البلدية الأخيرة و"الملايين المتوفرة في البلدية من دون أن تبادر إلى القيام بأيّ مشاريع من أجل البيارتة (وهو اسم اللائحة الفائزة)"، يخبرنا أنّه يرتاد المكان منذ كان طفلاً قبل ثلاثين عاماً. ويعلّق: "فليفعلوا شيئاً، إن لم يكن من أجلنا فمن أجل السيّاح. في قبرص كثير من الشواطئ مرتبة ومجهزة ومفتوحة للجميع مجاناً.. هنا، لماذا يتوجب على السائح أن يدخل إلى نادٍ خاص بـ30 دولاراً على الأقل كي يسبح!؟".
اقــرأ أيضاً
مثل تلك الذاكرة يمتلكها جيداً مدير شاطئ الرملة البيضاء العام نزيه الريّس. يستعيد أسماء المسابح الخاصة المفتوحة أمام الجميع لكن برسم دخول قبل الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975. منها "أكابولكو" و"سان سيمون" و"سان ميشال" أقصى جنوب الساحل البيروتي، في المنطقة المعروفة اليوم بالجناح والتي باتت من أفقر المناطق بما تضمه من خليط سكاني لبناني ووافد، وكذلك فوضى عمرانية وتنظيمية شاملة. هذه المسابح كانت "للطبقة الميسورة" كما يقول الريّس، حتى إنّ رئيس الجمهورية اللبنانية الراحل كميل شمعون، وأسماء أخرى، كانت ترتادها.
أما الرملة البيضاء فيذكر أنّ الشاطئ كان أكبر بكثير وأعرض، خصوصاً قبل إنشاء الطريق السريع المحاذي له. كما كان يخترق نهاية الشاطئ الحالي من الجهة الشمالية مجرى نبع أبو شاهين الآتي من منطقة ساقية الجنزير. ومصبّه قريب جداً من مقهى غلاييني الذي أنشئ مكانه منتجع "موفنبيك" لاحقاً، وقبل ذلك نادي "ماريلاند".
يصل الريّس إلى الدالية، أو "ميّة الدالية" وهي المنطقة الصخرية التي تمتد من مقهى غلاييني إلى الروشة. هناك تعلّم السباحة صغيراً: "لست وحدي، بل معظم أهل بيروت تعلموا هناك، فالصخور تحيط البحر من كلّ جانب في ممر ضيق يمنع الخطر عن السباحين الصغار. أما من يصبح ماهراً فيخرج إلى البلاطة، وهي المنطقة المكشوفة على البحر خارج الدالية، ومياهها عميقة".
في الدالية، يشير الريّس إلى أنّ شخصاً كان يعرف باسم أبو العبد أنشأ غرفاً في الصخور في ذلك الزمن، بعضها من المغارات القائمة هناك، من أجل تغيير الرواد ملابسهم. كما كان يؤجرهم حسكات (قطعة خشب عائمة يقف عليها الشخص ويقودها بمجداف واحد كبير وقوفاً أو جلوساً). وكان أيضاً يبيعهم بعض المأكولات كسندويشات المقالي المتنوعة من بطاطا وباذنجان وقرنبيط.
بالقرب من الدالية، هناك منطقة سباحة صخرية أخرى، هي "الخمس برك". وكما يدلّ اسمها فهي عبارة عن خمس برك طبيعية مختلفة الأعماق، تغيّر الأمواج مياهها شيئاً فشيئاً لكنّ الحواجز الصخرية تحميها من ضربات الأمواج. يتعلم فيها الأطفال السباحة شيئاً فشيئاً، فينتقلون من عمق إلى آخر. وعندما يتقنون السباحة ينزلون عندها إلى منطقة الروشة، أي تجاه الصخرة تماماً. وهي المنطقة التي تضمّ قفزات مرتفعة تتجاوز 20 متراً. كما أنّ فيها مغارة طبيعية مليئة بالخفافيش، يمكن عبورها سباحة للوصول إلى جهة أخرى من المنطقة.
يحدّث الريّس "العربي الجديد" عن الشاطئ الذي لا يعرف كثيرون عنه أسفل الكورنيش البحري المواجه لصخرة الروشة. هذا الشاطئ لا يمكن الوصول إليه إلاّ عن طريق البحر: "الزجاج الملون الذي كان فيه بين الحصى الناعم كنز يجعله من أجمل الشطآن، لكنّ أحداً سرق الكثير منه أخيراً". كما يشير إلى أنّه سابقاً كان يلتقط الكثير الكثير من التوتيا (قنفذ البحر) من المنطقة، لكنّ الأعداد تقلصت شيئاً فشيئاً. وهي مشكلة يردّها إلى التلوّث.
آثار بيئية وحماية
بالحديث عن التلوث، تقول رئيسة جمعية "الأزرق الكبير" التي تتولى إدارة شاطئ الرملة البيضاء وحماية غيره من الشواطئ اللبنانية، عفت إدريس شاتيلا إنّ مياه الصرف الصحي الموجهة إلى الرملة البيضاء من الجهة الجنوبية تؤثر على نوعية المياه، وبالتالي على الكائنات فيها. تشير إلى أنّ المياه المقابلة للرملة البيضاء تعيش فيها العديد من الكائنات، كالدلفين وفراشة البحر وحصان البحر وصدف أم الخلود وصدف الموريكس والسرطانات المتنوعة وقيثارات البحر. كما تضمّ المنطقة عائلة فقمة معروفة بـ"فقمة الراهب" أو "فقمة الناسك" كان لها مغارة معروفة باسمها. حتى إنّها تشير إلى أنّ أحد الحيتان الضخمة مدفون في رمال الشاطئ منذ الستينيات. وعدا عن المياه الآسنة فإنّ النفايات البلاستيكية تشكل مغناطيساً لسموم التوكسين في الماء والتي تضرّ بالكائنات البحرية، كما أنّ الأسماك قد تأكلها.
تعمل الجمعية الآن على حماية الشاطئ بما يتوفر لها، في إطار خطة إدارية تلحظ أربع نقاط، هي: الإدارة البيئية التي تهتم بسلامة الماء والكائنات فيها، والمعلومات التي تتضمن إنشاء مرصد ومختبر علمي بحري، والسلامة والخدمات التي تهتم بالرواد تحديداً وما يقدم إليهم من خدمات ومن ضمنها مياه التحلية، والرابعة هي التوعية التي تتضمن مدرسة بحرية للأطفال.
تشير إدريس شاتيلا إلى أنّ شاطئ الرملة البيضاء خسر 20 متراً من عرضه منذ عام واحد فقط. وهو ما يتضح فعلاً من خلال اقتراب الماء من الطريق بشكل واضح. تقول إنّ هناك عدة مؤشرات لأسباب ذلك منها الصرف الصحي، ومنها الرصيف البحري الذي أنشأه مشروع مسبح قريب. وهذا التناقص يؤدي إلى الإضرار بالكائنات التي تعيش على الرمل كونه يضرّ ببيئتها.
من أجل السيّاح
بالعودة إلى شواطئ اللبنانيين التي تختفي شيئاً فشيئاً يودعنا الريّس بخبر غريب ومضحك عن شخص زرع الثوم فوق صخرة الروشة بالذات، علماً أنّ الصخرة (الكبيرة بين الاثنتين) التي يبلغ ارتفاعها 46 متراً لا يمكن الوصول إليها إلاّ عبر البحر، وتسلقاً.
وبالانتقال إلى الجهة السفلية من رأس بيروت، إلى الشمال من الروشة، ليس هناك أفضل من صيادي ميناء المنارة الجديدة للحديث عن ماضي المنطقة.
أمام التينة الوحيدة والسلالم الحجرية، وبنكهة القهوة الساخنة جداً والحلوة إلى أقصى حدّ، يشكو الصيادون دائماً همومهم الحياتية. ويؤكد الريس محمود أنّ ميناء الصيد هذا مصدر الرزق الوحيد لـ250 عائلة. وبالحديث عن ماضي المكان يقفز الصياد العتيق أبو رامي الذي كان ممدداً في فيء أرض المكان الإسمنتية لا يرتدي أكثر من سروال السباحة القصير. يقول إنّ هذه المنطقة لم يكن فيها على عهده سوى مسبحي "سبورتنغ" و"لونغ بيتش" أما النادي العسكري الذي تمدد شيئاً فشيئاً حتى بات يحتل أكبر مساحة، فإنّه كان مركزاً عسكرياً صغيراً ورثه الجيش اللبناني من الفرنسيين بعد الاستقلال (1943) وبقي على هذه الحال فترة طويلة. ومع كلّ توسعة له كان الصيادون يُطردون وتتقلص مساحتهم ومساحة السبّاحين بالقرب منهم، حتى لم يبق لهم أكثر من ميناء صغير صدر ترخيصه بمرسوم جمهوري في أواخر التسعينيات في عهد الرئيسين الياس الهراوي ورفيق الحريري.
من ميناء الصيادين عند المنارة البحرية، حتى مرفأ بيروت لم تبق إلا مساحات صخرية محدودة مجانية يمكن ارتيادها من أجل السباحة والصيد بالصنارة، بالإضافة إلى أنّ المياه الآسنة مسلطة عليها. هذه المساحات يمكن إحصاؤها كالآتي: المساحة الواقعة بين الميناء وحائط مسبح "كورال بيتش" الغربي، والواقعة بين حائط كورال بيتش الشرقي وميناء جلّ البحر، وبين حائط الميناء الشرقي ومسبح الجامعة الأميركية، ومساحتان صغيرتان تقعان بين مسبح الجامعة الأميركية وعين المريسة. أما المنطقة الواقعة بين عين المريسة ومرفأ بيروت فهي لا تضم أيّ مكان عام مجاني للسباحة بما فيها مساحات كانت في زمن سابق مفتوحة للجميع.
عن تلك المنطقة بالذات يتحدث عبد الله مصطفى، البحري الذي عمل في أحد مسابح رأس بيروت أكثر من خمسين عاماً. يشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّه مع أهله كانوا من سكان عين المريسة. وهناك بالضبط تسلّم والده الذي كان يملك مركباً بمحرك -وهو شيء مميز في تلك الفترة في خمسينيات القرن الماضي- إدارة "حمّام النجمة" الذي كان مسبحاً معروفاً طوال فترة كبيرة. يروي أنّ هناك مسبحاً آخر بالقرب منه اسمه "القنديل"، وثالثاً في الجهة الغربية من عين المريسة وهو "حمّام الجمل".
من جهته، بادر نبيل، وهو من رواد الصخور الملاصقة لمسبح الجامعة الأميركية، إلى استصلاح مساحة صغيرة لا تتعدى مترين بمترين كانت مليئة بالصخور الناتئة كباقي الأماكن. كسّرها وصبّ فيها أسمنتاً حتى باتت أرضاً مستوية. كان ذلك عام 2000 كما يقول لـ"العربي الجديد". وقبل أن يدخل في نقاش سياسي طويل يتعلق بالانتخابات البلدية الأخيرة و"الملايين المتوفرة في البلدية من دون أن تبادر إلى القيام بأيّ مشاريع من أجل البيارتة (وهو اسم اللائحة الفائزة)"، يخبرنا أنّه يرتاد المكان منذ كان طفلاً قبل ثلاثين عاماً. ويعلّق: "فليفعلوا شيئاً، إن لم يكن من أجلنا فمن أجل السيّاح. في قبرص كثير من الشواطئ مرتبة ومجهزة ومفتوحة للجميع مجاناً.. هنا، لماذا يتوجب على السائح أن يدخل إلى نادٍ خاص بـ30 دولاراً على الأقل كي يسبح!؟".
اقــرأ أيضاً